القوة الصاعدة

دور القوى الصاعدة في التأثير على التوازن الإقليمي في آسيا وتحدياتها المستقبلية: “دراسة حالة: اليابان وكوريا الجنوبية”

إعداد: مارتينا صابر مبخت – سارة طارق الجندي- سلمي خالد.
من خريجي برنامج التدريب الصيفي ٢٠٢٤- مسار القوة الصاعدة.

المقدمة:

   يعبر مصطلح الأمن الآسيوي عن انحسار القرن الأمريكي الذي استمر لفترة طويلة ليحل محله قرنًا جديدًا وهو القرن الآسيوي الذي يركز على التمركز حول القوى الصاعدة في آسيا، والتي من أبرزها الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان. وذلك بسبب النمو السريع في الناتج المحلي الإجمالي لتلك القوى باعتبارها مصدر مهم في التصنيع والتجارة في القارة إلي جانب التقدم التكنولوجي الهائل.

   حيث تلعب كلاً من اليابان وكوريا الجنوبية دورًا محوريًا في القارة بالإضافة إلى تأثيرهما الواضح على التوازن الإقليمي في آسيا، وخلال هذه الورقة سوف نعرض أهم جوانب ذلك التأثير وهو ما يتمثل في التأثير الاقتصادي لكوريا الجنوبية واليابان في آسيا، من خلال توضيح القوة الاقتصادية البارزة لليابان والصعود الاقتصادي لكوريا الجنوبية وسعي الدولتين إلى زيادة قوتهما الاقتصادية للتمكن من إحداث تأثير في المنطقة ومنافسة الدول الأخرى الصاعدة، والتأثير الدبلوماسي للدولتين والقوة الناعمة على التوازن الإقليمي في آسيا من خلال استغلال الثقافة.

   بالإضافة إلى التأثير الأمني والعسكري لليابان وكوريا الجنوبية، من خلال توضيح حجم القوة العسكرية لكلتهما والإنفاق العسكري المتزايد والتحالفات العسكرية والتدريبات التي تقوم بها تلك الدول، وسعيهما لزيادة قدراتهما العسكرية والقيام بتوسيع التدريبات العسكرية للاستعداد الدائم في حال مواجهة الصين أو كوريا الشمالية، بالإضافة إلى التركيز على التسلح والقوى النووية. وأخيرًا توضيح التحديات المستقبلية التي تواجه كلتا الدولتين. توصلت الورقة إلى أن كلًأ من اليابان وكوريا الجنوبية لهما تأثير واضح في الأمن الإقليمي باعتبارهما قوى صاعدة.

أولًا: التأثير الاقتصادي لكوريا الجنوبية واليابان في آسيا:

   لقد تشكل النمو الاقتصادي السريع في آسيا على مدار العقود الأخيرة بشكل كبير من قِبل قوى إقليمية مثل كوريا الجنوبية واليابان، ويرجع استقرار وازدهار المنطقة إلى سياساتهما وإبداعاتهما الاقتصادية. وتلعب كلًا من كوريا الجنوبية، كقوة عالمية بتطورها السريع في مجال التكنولوجيا والتصنيع، واليابان، باعتبارها أقدم اقتصاد صناعي في آسيا ونموذجًا للإبداع، أدوارًا حاسمة في التأثير على الظروف الاقتصادية في جميع أنحاء آسيا. ويمتد نفوذهما الاقتصادي من التجارة والاستثمار إلى المشاركة في الشراكات الإقليمية التي توفر بدائل لهيمنة الصين في آسيا.

١-إرث اليابان الاقتصادي ونفوذها المعاصرة:

   يعود نفوذ اليابان الاقتصادي في آسيا إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أصبحت أول دولة آسيوية تحقق وضع الدخل المرتفع. سمحت رحلة الأمة إلى الازدهار الاقتصادي، والتي يُشار إليها غالبًا باسم “المعجزة الاقتصادية اليابانية”، بأن تصبح اقتصادًا عالميًا رئيسيًا بحلول ثمانينيات القرن العشرين. وحتى اليوم، لا تزال اليابان واحدة من أكبر الاقتصادات في آسيا بل إنها رابع أكبر اقتصاد في العالم، فقد بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي 4.2 تريليون دولار أي ما يعادل 600 تريليون ين في عام 2023،[1] إذ تستفيد من خبرتها التكنولوجية وقاعدتها الصناعية القوية. يتميز الاقتصاد الياباني بالتصنيع عالي الجودة، بما في ذلك السيارات والإلكترونيات والروبوتات، وهي القطاعات التي وضعت اليابان كرائدة في الابتكار الصناعي. من خلال هذه الصناعات، لا توفر اليابان منتجات عالية الجودة في جميع أنحاء العالم فحسب، وإنما تضع أيضًا معايير دفعت التقدم التكنولوجي في آسيا بشكل عام.[2]

   يشكل الاستثمار المباشر لليابان في الدول الآسيوية المجاورة عنصرًا حيويًا في نفوذها الاقتصادي، حيث تُعد اليابان ثاني أكبر مبلغ من الاستثمار الأجنبي المباشر في منطقة دول جنوب شرق آسيا، فقد بلغ حجم الاستثمار الياباني في تلك المنطقة حوالي 26 مليار دولار أمريكي[3]، فقد أنشأت الشركات اليابانية مصانع ومراكز أبحاث ومشاريع بنية تحتية في مختلف أنحاء جنوب شرق آسيا والهند والصين، وجلبت التكنولوجيا والممارسات الإدارية والمعايير العالية. وقد أدى هذا الاستثمار إلى تسريع تنمية الاقتصادات الإقليمية، مما ساعد الصناعات المحلية على التحديث والاندماج في الاقتصاد العالمي. وقد عززت الشركات اليابانية خلق فرص العمل وتنمية المهارات في العديد من البلدان الآسيوية، الأمر الذي يعزز بدوره العلاقات الدبلوماسية والشراكات الاقتصادية.[4]

   إن مشاركة اليابان في الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف، مثل الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP) والشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، تعزز مكانتها كرائدة في تشكيل الهيكل الاقتصادي لآسيا. وتعزز هذه الاتفاقيات التجارية قدرًا أكبر من التكامل في السوق، وتُخفّض التعريفات الجمركية، وتضع القواعد التي تخلق فرصًا متكافئة في المنطقة. ويسمح قانون CPTPP، على وجه الخصوص، لليابان بالعمل مع دول مثل أستراليا وفيتنام وماليزيا، وإنشاء شبكات اقتصادية تقلل من الاعتماد على الصين وتوفر صوتًا جماعيًا بشأن القواعد واللوائح التجارية.[5]

٢-صعود كوريا الجنوبية كقوة اقتصادية عالمية:

   غالبًا ما يتم الاستشهاد بالصعود الاقتصادي لكوريا الجنوبية من دولة مزقتها الحرب إلى واحدة من أكبر الاقتصادات في العالم كنموذج للدول النامية الأخرى. فقد بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023 1.7 تريليون دولار أي ما يعادل 2.4 تريليون وون،[6] كان هذا التحول مدفوعًا بتركيزه على التصنيع القائم على التصدير، والذي يتميز بتطوير التكتلات التنافسية، أو”chaebols”، مثل Samsung وHyundai وLG. وقد وضعت هذه الشركات كوريا الجنوبية بين أكبر المصدرين في العالم في مجالات مثل الإلكترونيات وبناء السفن وتصنيع السيارات، مع منتجات تهيمن على الأسواق في جميع أنحاء آسيا. كما ساهم قطاع التكنولوجيا المتقدمة في كوريا الجنوبية في دورها كمورد رئيسي للمكونات الحيوية، مثل أشباه الموصلات، لسلاسل التوريد العالمية. إن صناعة أشباه الموصلات وحدها، بقيادة سامسونج للإلكترونيات وSK Hynix، أمر حيوي ليس فقط لاقتصاد كوريا الجنوبية ولكن أيضًا لاستقرار الاقتصادات المعتمدة على التكنولوجيا في آسيا.[7]

   تمتد المشاركة الاقتصادية لكوريا الجنوبية مع آسيا إلى ما هو أبعد من الصادرات لتشمل الاستثمار والاتفاقيات التجارية الثنائية. تعد الشركات الكورية الجنوبية مستثمرًا رئيسيًا في جنوب شرق آسيا، وخاصةً في فيتنام وإندونيسيا والفلبين. وقد سهلت الاستثمارات الكورية الجنوبية النمو الاقتصادي في هذه البلدان من خلال تطوير البنية الأساسية، وخلق فرص العمل، وزيادة نقل التكنولوجيا.[8] على سبيل المثال، تمتلك Samsung مرافق تصنيع واسعة النطاق في فيتنام، مما يجعلها لاعبًا مهمًا في الاقتصاد المحلي ومصدرًا رئيسيًا في البلاد. وتساهم هذه الاستثمارات في الاستقرار الإقليمي من خلال الحد من الفوارق الاقتصادية وتعزيز علاقات دبلوماسية أوثق.[9]

   تؤكد “السياسة الجنوبية الجديدة” لكوريا الجنوبية، التي تم تقديمها في عام 2017، على التزامها الاستراتيجي بتعزيز العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع دول الآسيان والهند. تهدف هذه السياسة إلى تنويع الشركاء التجاريين لكوريا الجنوبية وتقليل اعتمادها على الصين والولايات المتحدة. من خلال تعزيز شراكات اقتصادية أوثق مع دول جنوب شرق آسيا، لا تكتسب كوريا الجنوبية إمكانية الوصول إلى أسواق جديدة فحسب، بل تساهم أيضًا في التكامل الاقتصادي لآسيا. وقد أدت هذه السياسة إلى زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر وتبادل التكنولوجيا في المنطقة، مما أدى إلى خلق اقتصاد آسيوي أكثر ترابطًا.[10]

٣-التأثير على التوازن الإقليمي والاستقرار الاقتصادي:

   إن القوة الاقتصادية المشتركة لليابان وكوريا الجنوبية توفر ثقلًا موازنًا لنفوذ الصين المتنامي في آسيا. ويعزز كل من البلدين نموذجًا اقتصاديًا مفتوحًا قائمًا على التجارة الحرة والاستثمار المتبادل، وهو ما يتناقض مع الاستراتيجية الاقتصادية التي تديرها الدولة في الصين. إن المشاركة النشطة لليابان وكوريا الجنوبية في مبادرات مثل CPTPP وRCEP تقدم للدول الآسيوية مسارًا بديلًا للنمو الاقتصادي دون الاعتماد المفرط على أي دولة بمفردها. تساهم علاقاتها التجارية مع دول الآسيان والهند وبعضها البعض في إطار اقتصادي أكثر تنوعًا ومرونة داخل آسيا.[11]

   كما يشجع النفوذ الاقتصادي لليابان وكوريا الجنوبية المنافسة والابتكار في المنطقة. وباعتبارهما منتجين رائدين للتكنولوجيا، فإنهما يعززان مستوى عالٍ من الابتكار، مما يدفع الاقتصادات الآسيوية الأخرى إلى تطوير قطاعات التكنولوجيا الخاصة بها. وقد حفز وجود الشركات اليابانية والكورية الجنوبية في العديد من الأسواق الآسيوية الشركات المحلية على تعزيز قدرتها التنافسية، والاستثمار في مهارات القوى العاملة، واعتماد التكنولوجيا المتقدمة. وتشكل هذه الديناميكية أهمية بالغة بالنسبة لمستقبل آسيا الاقتصادي، لأنها تشجع على تهيئة بيئة اقتصادية متعددة الأوجه تعمل على تخفيف المخاطر المرتبطة بالاحتكارات الاقتصادية.

٤-التحديات والآفاق بالنسبة لليابان وكوريا الجنوبية:

   على الرغم من مساهماتهما الإيجابية، تواجه اليابان وكوريا الجنوبية العديد من التحديات التي يمكن أن تؤثر على نفوذهما الاقتصادي الإقليمي. إن شيخوخة سكان اليابان وانخفاض معدل المواليد يهددان نموها الاقتصادي في الأمد البعيد، الأمر الذي قد يقلل من قدرتها على الحفاظ على دورها القيادي في آسيا. وفي الوقت الذي تواجه فيه اليابان تقلصًا في القوى العاملة، قد يتباطأ نموها الاقتصادي، مما قد يؤثر على قدرتها على الاستثمار في الخارج والاحتفاظ بنفوذها في الأسواق الآسيوية.[12]

   وعلى نحو مماثل، تواجه كوريا الجنوبية تحديات ديموغرافية،[13] إلى جانب المنافسة الاقتصادية المتزايدة من الاقتصادات الآسيوية الناشئة والصين. ويضيف احتمال حدوث توترات سياسية مع الصين بشأن القضايا التجارية والأمنية طبقة أخرى من التعقيد إلى استراتيجية كوريا الجنوبية الإقليمية. ومع تحول الصين إلى لاعب مهيمن في قطاعي التكنولوجيا والتصنيع في آسيا، فقد تواجه كوريا الجنوبية ضغوطا لمواءمة سياساتها الاقتصادية بشكل أوثق مع الصين، حتى في الوقت الذي تسعى فيه إلى تنويع علاقاتها التجارية.[14]

   علاوة على ذلك، فإن اعتماد اليابان وكوريا الجنوبية على الولايات المتحدة كشريك أمني يمكن أن يعقد علاقاتهما التجارية مع الصين. يواجه كلا البلدين تحديًا يتمثل في الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع الصين مع موازنة التزاماتهما الأمنية مع الولايات المتحدة، مما يؤدي أحيانًا إلى مقايضات وتوترات سياسية. وسوف تكون قدرتها على اجتياز هذا التوازن الدقيق حاسمة في تحديد مدى نفوذها الاقتصادي في آسيا في السنوات المقبلة.

ثانيًا: التأثير العسكري والأمني:

   فإن كلًا من كوريا الجنوبية واليابان لديهما قوة عسكرية متقدمة بالإضافة إلى محاولتهما لزيادتها من خلال التحديث في القوة العسكرية لمواجهة الصعود الصين وقوتها الهائلة، وذلك ما يوضحه تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) من خلال ارتفاع الإنفاق العسكري في آسيا والمحيط الهادي بين عامي 2010- 2021 ليصل إلى 586 مليار دولار أي ارتفع بنسبة 47%، حيث تُعد كلتا الدولتين من بين أكبر الدول في القارة إنفاقًا على التسلح وتصل نسبة الإنفاق العسكري للصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية إلى 80% من إجمال الإنفاق في المنطقة[15].

حيث بلغ حجم الإنفاق العسكري لليابان 50.2 مليار دولار أمريكي في عام 2023 م، فقد زاد الإنفاق العسكري عن عام 2022 بنسبة 11% بعد أن كانت نسبة الإنفاق محدودة وفقًا للدستور[16]، بينما كوريا الجنوبية وصل حجم الإنفاق العسكري إلى 47.9 مليار دولار أمريكي في عام 2023 م، حيث زاد عن عام 2022 بنسبة 1.1%.

   رغم الخلافات بين الدولتين إلى أنهما تقاربا مع بعضهما لمواجهة التهديدات الإقليمية والدولية مثل الصين وكوريا الشمالية وروسيا بالنسبة لهما، بالإضافة إلى سعي الولايات المتحدة إلى تشجيع التقارب بينهما لبناء شبكة من التحالفات في شرق أسيا في مواجهة خطر الصين وكوريا الشمالية. كما قامت الولايات المتحدة بالتحالف مع كوريا الجنوبية الذي يتضمن وجود قوات أمريكية في كوريا الجنوبية وتعاون عسكري بينهما، وهذا لزيادة قوة كوريا الجنوبية ودعمها في مواجهة تهديد وخطر كوريا الشمالية. بالإضافة إلى قمة الثلاثية بين تلك الثلاث دول (كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة) التي مثلت نقطة هامة في تحول العلاقات الاستراتيجية من خلال التركيز على تعزيز التعاون الأمني بينهم[17].

   بالإضافة إلى التدريبات العسكرية المشتركة حيث اتفقت الدول الثلاث على توسيع التدريبات العسكرية[18]، كما اتفقت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان لتبادل المعلومات الاستخباراتية والتنسيق في الردود العسكرية[19].

حيث دخلت اليابان في شراكات دفاعية مع دول أخرى خارج المنطقة مثل كندا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي[20]، حيث يتضح مما سبق الدور البارز والتأثير الذي تلعبه كلًا من اليابان وكوريا الجنوبية من الناحية الأمنية والعسكرية في إحداث التوازن الإقليمي في آسيا.

   كما تعاونت كوريا الجنوبية واليابان في الجانب الأمني والعسكري من خلال اتفاقيتين، وهما اتفاقية تبادل المعلومات العسكرية واتفاقية تبادل المعلومات الأمنية فيما يخص صواريخ كوريا الشمالية، بالإضافة إلى التبادلات الدفاعية رفيعة المستوى بينهما[21].

  حيث اتفقا كلًا من اليابان وكوريا الجنوبية مع الولايات المتحدة على تقوية التعاون الأمني بينهم نتيجة المخاوف المشتركة من التهديدات لكوريا الشمالية وتحالفها العسكري مع روسيا، وذلك من خلال آلية تم إطلاقها في ديسمبر 2023 والتي تتمثل في نظام مشاركة بيانات التحذير من الصواريخ[22].

ثالثًا: التأثير الدبلوماسي وتأثير القوى الناعمة على التوازن الإقليمي في آسيا:

   تُعتبر القوة الناعمة لليابان وكوريا الجنوبية أداة مؤثرة في تحقيق التوازن الإقليمي في آسيا، حيث تعرف القوة الناعمة هي القدرة على جذب وإقناع الآخرين من خلال الإقناع بدلاً من الإكراه أو القوة، وتعتبر اليابان وكوريا الجنوبية من أهم الدول الآسيوية التي نجحت في استغلال قوة الثقافة لتعزيز نفوذهما الإقليمي وذلك من خلال عدة جوانب رئيسية، فعلى سبيل المثال [23]

١-مدى تأثير القوة الناعمة لليابان في آسيا :

   تعد اليابان قوة إقليمية حقيقية ذات وزن في السياسة الدولية، فسنجد إن براعتها التكنولوجية على سبيل المثال معروفة في جميع أنحاء العالم حيث تقود علامات تجارية وأصبح شعار “صنع في اليابان” مرادفًا للدقة والمتانة والميزات المتقدمة في آسيا، مما يجعل التكنولوجيا اليابانية مطلوبة بشدة من قبل المستهلكين في الساحة الإقليمية. تمتد القوة الناعمة لليابان إلى ما هو أبعد من إنجازاتها التكنولوجية، حيث صنعت اسمًا لنفسها في عالم الطهي وأصبح الطعام الياباني ظاهرة عالمية ولها تأثير على الجانب الإقليمي، حيث تنتشر المطاعم اليابانية في المدن حول أسيا بأكملها، وقد استفادت من دبلوماسية الطهي التي تستخدم الطعام للترويج لصورتها وجذب السياح والمستثمرين. يُشار إلى نجاح اليابان الباهر في الدبلوماسية الرياضية، فقد أُنشئت رياضة الجودو في اليابان في أواخر القرن التاسع عشر وأصبحت منذ ذلك الحين رياضة مشهورة عالميًا وإقليمياً.

   بالإضافة إلى إنجازاتها الاقتصادية والثقافية، لعبت اليابان أيضًا دورًا مهمًا في تعزيز التعليم والتبادل الثقافي في الإطار الآسيوي، وذلك من خلال المدارس والمراكز الثقافية اليابانية حول آسيا التي تقدم دروسًا في اللغة اليابانية وبرامج للتبادل الثقافي التي تعزز المساهمة في خلق صورة إيجابية لليابان كمكان للتعلم والتبادل الثقافي.

٢-مدى تأثير القوة الناعمة لكوريا في آسيا:

   تعتبر كوريا الجنوبية من الدول الأكثر تأثيرًا في مجال القوة الناعمة وذلك بوصفها لاعب مهيمن في صناعة الترفيه الإقليمية والعالمية، ويرجع ذلك لصعود موسيقى البوب الكوري والأفلام والمسلسلات الكورية، وقد حظيت الأفلام والبرامج التلفزيونية الكورية بإشادة واسعة وشعبية كبيرة في النطاق الآسيوي، وقد استثمرت الحكومة الكورية الجنوبية بشكل كبير في الترويج لثقافتها في الخارج من خلال إنشاء مراكز ثقافية كورية حول العالم ومن ثم تعزيز التعليم وتبادل اللغة، وذلك ليس فقط للترويج للغة والثقافة الكورية، بل أيضًا في بناء صورة إيجابية لكوريا الجنوبية كمركز للتبادل الثقافي والتعليم[24].

رابعًا: التحديات المستقبلية:

   لكي تسعى أي دولة إلى مكانة القوة الكبرى في النظام الدولي الحالي، يجب عليها من ناحية تعزيز قدراتها الشاملة إلى أقصى حد، ومن ناحية أخرى التعامل مع التحديات والقيود الداخلية والعالمية التي تواجهها لتحقيق هذا الهدف. وفي حالة اليابان وكوريا الجنوبية، فقد تواجه جهودهم المستمرة نحو الصعود العالمي العديد من التحديات والعقبات الكبيرة، والتي يمكن تلخيصها كما يلي:[25]

١-اليابان

  • فقد يشكل الدور المتزايد والمكانة المتنامية للصين في النظام الدولي الحالي أحد أكبر التحديات التي تعرقل طموحات اليابان وكوريا الجنوبية للتوازن الإقليمي في آسيا. تنظر طوكيو إلى الصين باعتبارها التحدي

الاستراتيجي الأكبر وغير المسبوق، ومصدر قلق للأمن القومي.

  • فقد تشكل التهديدات الأمنية المتعددة لأمن اليابان الوطني عائقًا أمام طموحاتها وصعودها في آسيا ، ومن بين هذه التهديدات تصاعد التوترات في بحر الصين الجنوبي، الأزمة المستمرة في شبه الجزيرة الكورية، أزمة تايوان، والتعاون الأمني والعسكري المتزايد بين الصين وروسيا.
  • بالإضافة إلى تحديات أخرى تتعلق بأمن الملاحة في المنطقة، هذا بجانب تواجه عدة تحديات داخلية كبيرة تعوق من طموحات اليابان للظهور كقوة عالمية رائدة. تشمل هذه التحديات انخفاض عدد السكان، وزيادة الفجوة في الثروة بين المواطنين، وفتور تفاعل الناخبين.[26]

٢-كوريا الجنوبية : تواجه كوريا العديد من التحديات التي تنذر بمخاطر وفرص في نفس الوقت، حيث تسعى هذه التحديات إلى رسم معالم التحول الكبير للمستقبل، ليس فقط من خلال تقديم تفسيرات جديدة للماضي، ولكن أيضًا من خلال تقديم رؤى جديدة حول ما قد يحمله المستقبل لكوريا.

  • شيخوخة المجتمع وتزايد نسبة كبار السن وانخفاض معدلات الولادة، تواجه كوريا الجنوبية ضغوطاً هائلة على الاقتصاد وعلى الميزانية العامة، ويؤدي هذا الوضع إلى نقص حاد في القوى العاملة، مما قد يسبب فقداناً حرجاً للمعرفة المتراكمة ويخلق فجوات في المهارات المطلوبة، مما يؤثر على الإنتاجية ويضعف القدرة التنافسية للاقتصاد. كما قد يؤدي هذا التحول الديموغرافي إلى زيادة الحاجة للعمالة المهاجرة، وهو ما قد يترتب عليه تحديات اجتماعية وثقافية تتعلق بالاندماج والاستقرار الاجتماعي.
  • من جهة أخرى، فإن الصعود المستمر للعالم متعدد الأقطاب يزيد من تعقيد الوضع الجيوسياسي لكوريا الجنوبية. تتنافس الدول الكبرى على النفوذ في منطقة شمال شرق آسيا، وهذا يضع كوريا الجنوبية في موقف حرج يتطلب منها الحفاظ على توازن دقيق في علاقاتها مع القوى العظمى.
  • أما كوريا الشمالية، فتظل تشكل تهديداً أمنياً مباشراً لكوريا الجنوبية، خاصة مع استمرار تطويرها للقدرات النووية. احتمال اندلاع حرب جديدة بين الكوريتين يظل قائماً، كما أن السعي نحو توحيد شبه الجزيرة الكورية، رغم أنه هدف طويل الأمد، يحمل في طياته تحديات هائلة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
  •  بالإضافة إلى ذلك، فإن التوتر النووي في المنطقة قد يؤدي إلى سباق تسلح نووي في شمال شرق آسيا، مما يزيد من المخاطر الأمنية ويضع كوريا الجنوبية تحت ضغوط مستمرة لحماية أمنها القومي.
  • يؤدي عدم استقرار الاقتصاد العالمي والأزمات المالية إلى زيادة المخاطر على اقتصادها، حيث يمكن أن تؤدي أي أزمة اقتصادية كبرى إلى تراجع الطلب على الصادرات الكورية، مما يسبب خسائر كبيرة للاقتصاد ويهدد استقراره. إلى جانب ذلك، تعاني كوريا الجنوبية من نقص في الموارد الطبيعية وموارد الطاقة، مما يجعلها تعتمد على استيرادها. هذا الاعتماد يعرضها لارتفاع أسعار الطاقة وتذبذبها، ويضع ضغوطاً إضافية على اقتصادها. كذلك، قد تتطلب هذه التحديات تكوين تحالفات جديدة للحصول على مصادر بديلة للطاقة وتبني تقنيات طاقة متقدمة لضمان تأمين احتياجاتها المستقبلية.

الخاتمة:

   نتيجة لما تم عرضه في هذه الورقة البحثية عن قوة اليابان وكوريا الجنوبية الاقتصادية والعسكرية والأمنية كقوى صاعدة تسعى إلى إحداث التوازن في القارة، وذلك في مواجهة كلًا من الصين بهيمنتها المتزايدة ومحاولتها للسيطرة على القارة وكوريا الشمالية بما تمثلان من تهديدات كبيرة للأمن الإقليمي لقارة آسيا.

  خلصت الورقة إلى بعض النتائج التي تتمثل فيما يلي:-

  • إن اليابان تُعد واحدة من أكبر الاقتصادات في آسيا بل إنها رابع أكبر اقتصاد في العالم ويطلق عليها “المعجزة الاقتصادية اليابانية”، كما سعت إلى إنشاء شبكات اقتصادية تقلل من الاعتماد على الصين.
  • يُعد النموذج الاقتصادي كوريا الجنوبية والتنمية التي شهدتها مثال للدول النامية باعتبارها دولة استطاعت أن تحقق نجاحًا بارزًا بعد أن كانت تعاني من حرب، وعملت على تنويع الشركاء التجاريين لتقليل اعتمادها على الصين والولايات المتحدة.
  • فيما يتعلق بالجانب الأمني والعسكري كلتهما تمتلكان قوة متقدمة بالإضافة إلى تحالفهما معًا وتحالفهما مع الولايات المتحدة لتعزيز التعاون وتحقيق التوازن الإقليمي في مواجهة الصين وكوريا الشمالية.
  • استطاعت كلًا من كوريا الجنوبية واليابان أن تستخدم وتستغل بذكاء القوى الناعمة في تحقيق التوازن الإقليمي في القارة وبناء صورة إيجابية، بالإضافة لتعزيز نفوذهما من خلال استخدام الثقافة أداة قوية ذات تأثير.
  • تلعب كلًا من كوريا الجنوبية واليابان أدوارًا رئيسيةً في التأثير على التوازن الإقليمي سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا ودبلوماسيًا، بالإضافة إلى قوتهما التكنولوجية ونفوذهما الاقتصادي مما يعكس قوتهما كبدائل لهيمنة الصين في آسيا.

 كما تُقدم بعض التوصيات التي تساعد كوريا الجنوبية واليابان في مواجهة التحديات المستقبلية التي قد تعيق تقدمهما ونموهما الاقتصادي:

  • قيام الدولتين بالعمل على زيادة معدل المواليد لتوفير قوة بشرية قادرة على الاستمرار في تحقيق النمو الاقتصادي بدلًا من انهياره لارتفاع شيخوخة السكان والافتقار إلى الشباب التي تُعد العمود الفقري لأي اقتصاد.
  • تعميق وتقوية التعاون الاقتصادي والأمني بين الدولتين من خلال إقامة مشاريع مشتركة في مجالات مختلفة هامة كالطاقة المتجددة والتكنولوجي وغيرها، وعلى المستوى الأمني من خلال تنسيق السياسات العسكرية فيما بينهما وتبادل المعلومات الاستخباراتية للاستعداد لمواجهة التهديدات المحتملة.
  • التحالف مع القوى الكبرى إقليميًا وعالمية على المستوى الاقتصادي والأمني مثل الدخول في اتفاقيات وتحالفات لتدعيم توازنهما في مواجهة الصين وكوريا الشمالية.
  • العمل على تبني سياسة حوار منفتحة وبناءة مع الصين وأيضًا تتسم بالتوازن، لتضمن كلًا من الدولتين تحقيق مصالحهما وتجنب التصعيد والخلاف مع الصين التي تُعد قوة اقتصادية وعسكرية هائلة.
  • يمكن للدولتين التعاون مع الصين في العديد من المجالات غير العسكرية كالتجارة والابتكار التكنولوجي لتعزيز الاستقرار الاقتصادي.
  • قيام الدولتين بتشجيع السياحة المتبادلة بينهما والتبادل والتفاهم الثقافي حتى تنتهي التوترات التاريخية التي كانت بين اليابان وكوريا الجنوبية.
  • تعزيز التعاون مع العديد من الدول في جنوب شرق آسيا ولذلك للعمل على تحقيق التوازن الإقليمي في القارة.

[1] Aaron O’Neill, Japan: Gross domestic product (GDP) in current prices from 1980 to 2023, with projections until 2029, Statista, July4, 2024, Date of Access November8, 2024, Available at: https://shorter.me/wp2Kq

[2] Tongye Wang, Analysis on the Influential Factors of Japanese Economy, E3S Web of Conferences, 2021, PP.1-2. Available at: https://shorter.me/vl5CK

[3] EUGENER. L.  TAN, Rightsizing Japan’s Economic Influence in Southeast Asia, FULCRUM ANALYSIS ON SOUTHEAST ASIA, April 29, 2024. Available at: https://fulcrum.sg/rightsizing-japans-economic-influence-in-southeast-asia/#:~:text=In%20addition%2C%20Japan%20has%20remained,worth%20approximately%20US%2426%20billion

[4] Zhao Hong, Chinese and Japanese Infrastructure investment in Southeast Asia: From rivalry to cooperation?, Institute of Developing Economies, 2018, PP.9-12. Available at: https://shorter.me/Ee56_

[5] Mai OBA, Japan and the Regional Comprehensive Economic Partnership (RCEP), Economic Research Institute for ASEAN and East Asia, 2022, PP.3-9. Available at: https://shorter.me/W4DaO

[6] Aaron O’Neill, Japan: Gross domestic product (GDP) in current prices from 1987 to 2029, Statista, July4, 2024, Date of Access November8, 2024, Available at: https://shorter.me/BELAJ

[7] Eun Mee Kim, Korea’s Evolving Business-Government Relationship, in: John Page & Finn Tarp(eds.), The Practice of Industrial Policy: Government-Business Coordination in Africa and East Asia, (Oxford, Oxford University Press, 1st Edition, 2017), PP.114-119.

[8] Oskar Pietrewicz, South Korea’s Growing Economic Involvement in Southeast Asia, PISM The Polish Institute of International Affairs, No.29, 2021, PP.1-2. Available at: https://shorter.me/YmrUb

[9] Peter Sheldon & Seung-Ho Kwon, Samsung in Vietnam: FDI, Business-Government Relations, Industrial Parks, and Skills Shortages, The Economic and Labour Relations Review, Vol.34, No.1, 2023, PP.1-6.

[10] Jaewon Hwang, Jay Lim, Jeongmin Seong and Others, Korea’s Next S-Curve: A New Economic Growth Model for 2040, McKinsey & Company, 2023, PP.18-27. Available at: https://shorter.me/ulLD6

[11] The Oxus Society for Central Asian Affairs & Davis Center of Russian and Eurasian Studies at Harvard University, Japan and South Korea in Central Asia, (Cambridge, Davis Center of Russian and Eurasian Studies,2021), Available at: https://shorter.me/wjfxH

[12] Mariko Oi, Can AI Help Solve Japan’s Labour Shortages?, BBC, April19, 20244, Available at: https://shorter.me/OiSEj, Date of Access November 3, 2024.

[13] بسنت جمال، مأزق “YOLO”: المخاطر الاقتصادية للتراجع السكاني في كوريا الجنوبية، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، سبتمبر 2024، متاح على الموقع الآتي: https://shorter.me/bNT8e

[14] Kang-Kook Lee, Korea’s Economic Growth and the Growth Model in the Changing Global Economy, The Japanese Political Economy, Vol.50, No.2, 2024, PP.175-182.

[15]  منى مصطفى محمد، Asian Century: “معضلة الأمن” الإقليمية على الصعود الآسيوي، إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، مجلة حول العالم، ع 3، أبريل 2024، ص 16.

[16] Global military spending surges amid war, rising tensions and insecurity, STOCKHOLM INTERNATIONAL

PEACE RESEARCH INSTITUTE (SIPRI), 22 April 2024. Date of Access November8, 2024, Available at:

https://www.sipri.org/media/press-release/2024/global-military-spending-surges-amid-war-rising-tensions-and-insecurity

[17] تاكاهاتا أكيو، لماذا يتغير موقف كوريا الجنوبية من اليابان بتغير رؤسائها .. وهل تنجح الولايات المتحدة في تصفية الأجواء بينهما لمواجهة تهديدات  كوريا الشمالية  والصين؟، اليابان بالعربي، أكتوبر 2023.

[18]  المرجع السابق.

[19] نيشي نو جونيا، انفراجة في العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية: هل يمكن للبلدين اغتنام الفرصة؟، اليابان بالعربي، مايو 2023.

[20] احتدام التنافس الدولي في شرق آسيا والإند-وباسيفيك، وتداعياته على منطقة الخليج، مركز الأمارات للسياسات، وحدة الدراسات الآسيوية، سبتمبر 2023.

[21] حوافز وكوابح: هل يستمر التقارب في العالقات بين اليابان وكوريا الجنوبية؟، أبو ظبي: المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، يونيو ،2024.

[22]  كوريا الجنوبية واليابان تتفقان على تعزيز التعاون الأمني ضد التهديدات الكورية الشمالية، وكالة يونهاب للأنباء، أكتوبر 2024. متاح على الرابط التالي: https://ar.yna.co.kr/

[23] Diep-Hoang Schippers,” Exploring the Soft Power of South Korea and Japan “, Global Synergy, December 7, 2023, StudyStake. https://web.studystake.com/exploring-the-soft-power-of-south-korea-and-japan/

[24] Minsung KiM,” The Growth of South Korean Soft Power and Its Geopolitical Implications“, JOURNAL OF INDO-PACIFIC AFFAIRS, OCTOBER 2022, P124 -125. chrome-extension://efaidnbmnnnibpcajpcglclefindmkaj/https://media.defense.gov/2022/Nov/08/2003110744/-1/-1/1/JIPA%20-%20MINSUNG%20KIM%2022.PDF

[25]Future for advanced research and studies, What Dilemma is Hampering Japan’s Rise to a Major World Power, Policy Briefs, 22 March 2024

https://futureuae.com/en-US/Mainpage/Item/9109/challenges-to-the-ascent-what-dilemma-is-hampering-japans-rise-to-a-major-world-power#:~:text=The%20new%20policies%20identified%20three,war%20between%20Russia%20and%20Ukraine

[26]  Hyeonju Son,” Alternative future scenarios for South Korea in 2030 “, Metafuture, P7-8

chrome-extension://efaidnbmnnnibpcajpcglclefindmkaj/https://www.metafuture.org/pdf/son-korea.pdf

زر الذهاب إلى الأعلى