الدراسات الافريقية

قراءة في رواية “مدفونة تحت شجرة الباوباب”(حول مُعاناة الإناث تحت قبضة بوكو حرام)

إعداد: نهاد محمود -باحثة متخصصة في الشئون الأفريقية -عضو مجموعة عمل الدراسات الأفريقية بالمركز.

مُقَدِّمَة:

تقوم رواية “مدفونة تحت شجرة الباوباب” Buried Beneath the Baobab Tree بشكل أساسي على سرد قصص حقيقية استنادًا إلى مقابلات مع فتيات صغيرات اختطفتهن جماعة بوكو حرام خلال عام 2014. وعليه تأخذك الرواية، الصادرة في سبتمبر 2018، إلى تتبع ما حدث لأكثر من مائتي فتاة، من خلال حياة بطلة الرواية وتُدعى “يا تا” YA TA ونضالها هي وعشرات الفتيات، من أجل البقاء والنجاة من قبضة بوكو حرام. وكيف تحولت أحلام الفتاة الصغيرة البسيطة من شراء زوج من الأحذية للذهاب به للكنيسة، والفوز بمنحة دراسية للطلبة المتميزين من الأُسَر الفقيرة بولاية بورنو، والالتحاق بالجامعة والزواج، إلى كوابيس مفجعة عندما تعرضت قريتها لهجوم قادته جماعة بوكو حرام، نتج عنه اقتيادها مع فتيات ونساء أخريات إلى غابة “سامبيسا” سيئة السمعة التي يتواجد بها التنظيم الإرهابي.

عقب ذبح متمردي التنظيم لأغلب الرجال والصبية في القرية، تنقلك الرواية إلى واقع أكثر مرارة حيث حياة الفتيات والنساء بغابة سامبيسا، في مكان تُجبَر فيه على اتباع معتقدات خاطفيك المتطرفة وإلا سيكون مصيرك الدفن تحت شجرة الباوباب، التي كانت بالنسبة للفتاة قبل الاختطاف مكانًا للعب والثرثرة والاستراحة، بل كانت شجرة للحياة Tree of life”” كما يطلق عليها، لأهميتها ليس فقط للفتاة وقريتها، بل للإنسان والبيئة ككل.

 ومع هذه الظروف شديدة القسوة، تدافع الفتاة عن وجودها، وبقدر ما قد يبدو الهروب من قبضة هؤلاء الإرهابيين مستحيلًا، تقاتل بكل ما أوتيت من قوة من أجل حياتها ومستقبلها الذي تحلم به.

“تشيبوك”.. ما قبل الهجوم:

نذهب في البداية إلى حياة بطلة الرواية (الهادئة) قبيل الاختطاف؛ وتحكي الرواية كيف كانت الأجواء في قرية “تشيبوك” تتسم بإيقاع يومي هادئ ونابض بالحياة، مليء بالثراء الثقافي والاجتماعي والدفء الأسري. حيث كانت القرية، التي تقع في الريف الشاسع في شمال شرق نيجيريا، مزدهرة بالعلاقات المجتمعية والقيم التقليدية. كانت بطلة الرواية، تجوب هذا العالم بحماسة شبابية وقلب مليء بالأحلام. كانت عائلتها هي محور وجودها، مسترشدة بحبهم وحكمتهم.

رغم ذلك، كان وراء هذه الحياة المثالية همهمات متزايدة من القلق وعدم الارتياح. فقد ألقى صعود جماعة بوكو حرام المتمردة في شمال نيجيريا بظلاله على القرية، ولكن بالنسبة للعديد من السكان المحليين في القرية، كان التهديد لا يزال بعيدًا. وأصبحت المناقشات الخافتة حول أنشطة المتمردين أكثر تواترًا، ومع ذلك تمسك القرويون بروتينهم اليومي، على أمل ألا يصل الخطر إلى عتبة دارهم أبدًا.

قبل العاصفة التي قلبت حياتهم رأسًا على عقب، كانت قرية تشيبوك (بطلة الرواية) مكانًا تتغذى فيه الأحلام، ويتجدد كل يوم بوعد بمستقبل مستقر يمكن التنبؤ به. لم يكن لديهم أدنى فكرة أن هدوء حياتهم على وشك أن يتحطم، في يوم سيتغير فيه كل شيء.

وعاشت القرية في أيامها الهادئة حتى تحطم السلام الذي كان يسود قرية الفتاة “يا تا” YA TA الصغيرة إلى الأبد. ففي ذلك اليوم المروِّع، اقتحم مسلحو جماعة بوكو حرام القرية بقسوة لا توصف. وحلَّت الفوضى والرعب محل الهدوء الذي كان سائدًا في الروتين اليومي للقرية، حيث قام المسلحون بجمع الفتيات الصغيرات، بما في ذلك بطلة الرواية. وتحولت البيئة المألوفة والآمنة إلى مشاهد من الرعب والارتباك على نحو لا يمكن تصوره.

في قبضة بوكو حرام:

كان التأثير الأولي لهجوم بوكو حرام على البطلة وأهل القرية مدمرًا. لم يكن هناك وقت لاستيعاب الاضطراب المفاجئ؛ ففي غضون ساعات قليلة، تمزقت الحياة كما لما يعرفونها من قبل. لم يستطع أهل الفتاة إلا أن يشاهدوا ما يحدث لهم في رعب وعجز، على نحو جعلهم يتساءلون: كيف انتُزعت ابنتهم بهذه البشاعة والقوة؟ وها نحن نرى المجتمع، الذي كان مرتبطًا سابقًا بالتقاليد المشتركة والدعم المتبادل، أصبح الآن مليئًا بالرعب والدم والقتل والإرهاب.

عقب ذلك تحاول الرواية الغوص فيما ألمَّ باختطاف نساء وفتيات القرية؛ كإجبارهن على العمل الشاق وتلقيهن مبادئ متطرفة لا صلة لها بالإسلام، والزواج من رجال التنظيم أو الموت والدفن أسفل شجرة الباوباب.

الباوباب.. شجرة الحياة:

وبخصوص شجرة الباوباب التي تصدرت غلاف هذه الرواية وحملت عنوانها؛ فهي تُشكِّل صورة محورية ورمزية في هذه الرواية. وفي غابة سامبيسا على وجه التحديد، تحول هذا الرمز من كونه مصدرًا للحماية واللعب والثرثرة، إلى مكان يدفن أسفله ضحايا التنظيم الإرهابي، ممن يخالفون الأوامر، في دلالة -ضمن دلالات لا حصر لها- على تجاوزات بوكو حرام لكافة المبادئ الإنسانية والأخلاقية والدينية. كما تدرك مع صفحات الرواية كيف وصلت الفتيات المختطفات إلى مرحلة النضج، ليس في منزلهن وقريتهن، بل في براري غابة سامبيسا، حيث لا تعني شجرة الباوباب شيء سوى الموت.

ويمكن للقارئ أن يتلمس خلال ثنايا الرواية كيف مثَّلت شجرة الباوباب، الشاهد الصامت على كافة الأحداث، تقف في قلب القرية، رمزًا للمرونة والاستمرارية، فبعد أن كانت شاهدًا على الاحتفالات والمهرجانات بين أهل القرية، باتت أداة ضمن أدوات بوكو حرام للعنف والقمع وحتى القتل.

البُعد الإنساني:

حرصت الرواية على تصوير الجانب الإنساني البحت للضحايا المدنيين، وكيف تستهدف الجماعات الإرهابية مثل بوكو حرام عائلات نيجيرية بسيطة تعيش حياة عادية كوالد (يا تا) بطلة الرواية الذي يزرع الفول السوداني والفاصوليا والذرة ويعود لأسرته للاجتماع حول مأدبة الغداء، ثم يستمع لراديو بي بي سي باللغة الهوسية BBC Hausa، وغيرها من القصص البسيطة في السرد، العميقة في الأثر الإنساني، لتدرك معنى أن تتهاوى هذه القرية (وغيرها) التي تحوي بيوتًا تضم عائلات وحكايات وأطفال كان لديهم الكثير من الأحلام والطموحات، ليس لكارثة طبيعية أو لحرب كبرى بل لأن فصيلًا إرهابيًا قرر شنّ هجومًا غاشمًا لا يعرف الرأفة أو الرحمة تجاه الحجر والبشر، كبار وصغار، على حد سواء.

ضلوع الحكومة النيجيرية؟

تحاول الرواية الإشارة إلى فشل الحكومة النيجيرية ومسئوليتها عما آلت إليه هذه الأوضاع الامنية الهشة التي تخلف خسائر إنسانية غير متوقفة، من خلال عدة دلالات؛ كمتابعة الأب والد بطلة الرواية للأخبار بالراديو، قبل وقوع الهجوم على قرية الفتاة “يا تا”، التي توضح كيف تتعرض الحكومة النيجيرية لانتقادات شديدة بسبب تعاملها الهشّ مع التهديد الذي تشكله جماعة بوكو حرام. وفي هذا السياق تأخذنا الرواية لقول الإذاعي بالراديو الذي يستمع إليه الأب: “والآن ينضم إلينا البروفيسور “وولي سوينكا” الحائز على جائزة نوبل، لمناقشة الأسباب التي جعلت الحكومة تبدو عاجزة إلى هذا الحد.”

جدلية الربط بين الإسلام وبوكو حرام:

يتضح من ثنايا الرواية التأكيد على أن أعمال بوكو حرام الإرهابية لا تمثل إلا نفسها ومبادئها المتطرفة، وأنها لا صلة لها بالدين الإسلامي المعروف بمبادئه السمحة ونبذه للعنف. تجلَّى ذاك خلال عدة حوارات، منها ما وَرد على لسان أحد مسيحي القرية الذي يقول: “كان الإسلام دائمًا دينًا للسلام. كما عاش النبي محمد صلى الله عليه وسلَّم نفسه في سلام مع جيرانه المسيحيين واليهود”. ومع سؤال بعضهم: “لماذا يزعم هؤلاء المنتمين إلى جماعة بوكو حرام أنهم يمثلون الإسلام؟ وإذا كان قرآنكم يعلمكم كل هذه القيم الإنسانية الطيبة، فلماذا يتصرفون بشكل مختلف كهذا؟ ليرد أحدهم: “إنهم مجرد أوغاد!” “مثيرو للشغب، مجرمون ليس لديهم ما يفعلونه! إنهم لا يقرؤون من نفس القرآن الذي يقرأه الآخرون.”

وعن عداء بوكو حرام الصريح للتعليم واعتقادهم بأنه غربي ومُفسِد، كأغلب مؤسسات الدولة، يقول أحد ساكني القرية: “إن ذلك يتعارض بشدة مع تعاليم الإسلام، حيث كان الوحي الأول الذي أنزله الله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو كلمة “اقرأ”. وهذا ما أعلمه للأطفال في صفي، حيث أؤكد لهم بضرورة السعي وراء المعرفة”.

إعادة الإدماج؟

في حين تؤكد الرواية على تأثير الصدمة التي تخلفها هذه الأحداث على الأسر، فإنها تكشف عن مشكلة متجذرة ومتعددة الأبعاد وهي تحديات إعادة دمج الناجين من الإناث وأطفال الإرهابيين في المجتمع مرة أخرى. وعليه تصور الرواية الوصمة المرتبطة بكون الفتاة عادت لقريتها كزوجة وأم لطفل من أبناء بوكو حرام، وآبائهن الإرهابيين. وبالنسبة للأسرى المُحرَّرين، فإن المستقبل لن يكون بالتأكيد كما حلموا به من قبل. إن رغبة هؤلاء الفتيات في الانطلاق والعودة إلى المدرسة وشراء الأحذية واللعب، تتلاشى أمام معرفتهن بحملهن من زوج إرهابي مُقنَّع، قد لا يتعرفن على هويته أبدًا.

خُلاصة:

نجحت رواية “مدفونة تحت شجرة الباوباب” ببراعة في أن تنقل لنا الجانب الإنساني من حياة المدنيين -وبخاصة النساء والفتيات- الواقعين تحت قبضة الإرهابيين، كذلك حرصت على تقديم سرد إنساني دقيق لممارسات المجموعة الإرهابية التي ابتليت بها ولاية بورنو النيجيرية، عبر الغوص بعالم مراهقة نيجيرية عرفت لتوها أنها فازت بمنحة دراسية، لتتغير حياتها بشكل مروَّع عند اختطافها على أيدي بوكو حرام. وتنسج الرواية ببراعة قصة مفجعة لكنها مفعمة بالأمل، لترسم صورة حقيقية لنضال فتاة تحاول التمسك بأحلامها وهويتها وسط محنة لا يمكن تصورها.

لا تسلط الرواية الضوء على الحقائق الوحشية التي يواجهها الكثيرون ممن هم في قبضة الإرهاب فحسب، بل تحتفي بالنفس البشرية التي تؤمن بذاتها كما هي، بما يجعلها لا تُقهَر، بل تناضل جاهدة من أجل التشبُّث ببصيص من النور، حتى في أحلك الأوقات، تحت قبضة التنظيم الأكثر دموية ووحشية في البلاد.

في الأخير نختتم بالإهداء الذي بدأت به الرواية ونأمل بتحققه يومًا ما: “إلى الفتيات والنساء في نيجيريا.. على أمل أن يعرفن أوقاتًا أكثر إشراقًا من هذه.”

…………………………………………………………………………………………………………………………………..

Adaobi Tricia Nwaubani, Viviana Mazza, Buried Beneath the Baobab Tree, (New York: Katherine Tegen Books, September 4, 2018).

استلهمت الباحثة فكرة قراءة ومراجعة الرواية خلال قراءة كتاب الأستاذ الدكتور حمدي عبد الرحمن حسن (الأكاديمي والمفكر الرائد المتخصص في الشأن الأفريقي)، الذي أشار إلى الرواية خلال كتابه الصادر حديثًا: “عصــر الأنثروبوســين: التغيــر المناخــي وحــروب المســتقبل في إفريقيا”، وحديثه عن الدمار واسع المدى الذي تلحقه بوكو حرام بالبيئة والمجتمعات التي تشن عليها هجماتها وما يتبع ذلك من تحويل الأراضي الخصبة إلى مناطق صراع قاحلة، وهو ما ذكرته الرواية بالفعل، التي اتخذت من الشجرة (الباوباب) واستخدامها للتهديد بالدفن أسفلها حال مخالفة أوامر قادة التنظيم الإرهابي، عنوانًا ورمزًا لها.

حول شجرة الباوباب: تنتصب أشجار الباوباب (التبلدي) العملاقة منذ ملايين السنين ببيئات الغابات الجافة بمناطق شاسعة من قارة إفريقيا، وشمال غرب أستراليا. ويمكن لهذه الأشجار التي تتمتع بقيمة كبيرة لكل نظام بيئي، أن تعيش لأكثر من 1000 عام، وتُعرف باسم “أم الغابة” و”شجرة الحياة”. ويتمثل الغموض المرتبط بمكان نشأة هذه الأشجار بزيادة شهرتها. ورغم أن هناك فرضيات متضاربة حول المكان الذي زُرعت فيه لأول مرة، إلا أن النظرية السائدة تتمثل بأن مصدرها البر الرئيسي في إفريقيا.

زر الذهاب إلى الأعلى