مقالة رأي

مقالة رأي : التطورات في سوريا… العمليات العسكرية والجهاديون والمستقبل

كتب: أحمد سلطان – مسئول برنامج دراسات التطرف بالمركز.

حتى الآن، يبدو كثير من المراقبين والمتابعين للمشهد السوري متفاجئين من التطورات الأخيرة على الساحة، فالفصائل السورية المسلحة وفي القلب منها هيئة تحرير الشام (النصرة سابقًا)، سيطرت على حلب وحماة ودخلت لريف حمص وتواصل الزحف تجاهها، والثائرون على “الأسد” في درعا اقتربوا من العاصمة دمشق بينما ينسحب الجيش السوري (النظامي) بصورة أسرع من المتوقع، تحت مسمى “الانسحاب التكتيكي” الذي ليس تكتيكيًا بالتأكيد بل يجب أن ينضم لقرينه “الصبر الاستراتيجي” في التعبير عن الهزيمة.
وفي الحقيقة الحملة الأخيرة للفصائل المسلحة ليست مفاجئة إلا لمن لا يتبع الشأن السوري فقط بل كانت الفصائل تلوح بتلك الحملة وتعلن عن نيتها الهجوم لاستعادة حلب، لكن المفاجأة الحقة كانت سرعة انهيار وانسحاب قوات الجيش السوري التي فاجئت حلفاءه وخصومه معًا، فالإيرانيين والروس والأمريكيين والإسرائيليين والفصائل المسلحة والكل تقريبًا لم يتوقعوا هذه النتائج بتلك السرعة، وكل هؤلاء وغيرهم منخرطون في المشهد السوري المعقد.
وليست الحملة الحالية منفصلة عن السياق الإقليمي والدولي، وهذا ما قلته أكثر من مرة، فلم تكن الحملة الحالية لتحدث لو لم تحدث حرب غزة ويتم فيها استنزاف حزب الله وإيران، فالولايات المتحدة وإسرائيل أرداتا إضعاف النفوذ الإيراني وقطع الطريق الممتد من إيران مرورا بالعراق وسوريا إلى لبنان، وهذه الحاجة زادت بعد إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، فالمعروف أن الحزب سيعيد بناء قوته وبحاجة لهذا الطريق حتى يتمكن من لملمة شتاته أما وفق التطورات الحالية فالمراد له أن يتم “خنقه استراتيجيًا” ومنعه من العودة لامتلاك أدوات القوة التي يمكن أن تؤثر على أمن إسرائيل.
وعلى نفس الصعيد، فالحملة التي تأتي بدعم تركي واضح- بعد أن فشلت محاولة أنقرة للتطبيع مع دمشق بسبب الخلافات الجوهرية بشأن انسحاب تركيا من الأراضي السورية وأمور أخرى- هدفها مزيد من التمكين لتركيا ومشروعها في المنطقة وهي بتوافق ورضى غير معلن من الولايات المتحدة التي ترى من مصلحتها إضعاف إيران والضغط على روسيا.
وفي منتصف هذه المعضلة، تقف الدول العربية التي تتوجس من صعود الجماعات المسلحة ومن مخططات إعادة رسم خرائط السيطرة والنفوذ وترى بأعينها مهددات الأمن القومي العربي، وبالمناسبة بعض هذه الدول حاولت ونصحت النظام السوري من أجل إعادة تأهيله، لكن “بشار الأسد” لا يستمع لأحد- وهذه طبيعة الطغاة الذين يجبلون الغزاة كما يقول القول العربي الشهير-، وبالتالي فالحل السياسي لم يجد طريقًا في ظل غياب الإرادة السياسية الجادة، والبديل الطبيعي هو المشهد الحالي في بلد مقسم فعليا.
ولعل من أبرز الظواهر، في هذا المشهد، هو ظهور أبو محمد الجولاني أحمد حسين الشرع الذي تربى في أسرة يسارية وتحول للسلفية الجهادية وسافر إلى العراق قبل سقوط صدام حسين وانضم للقاعدة ومنها دخل إلى تنظيم الدولة “داعش”، ومرة أخرى أجد هناك من يتفاجئ بخطاب الرجل والذي ليس وليد اللحظة فهذا التحول حاصل بالفعل منذ سنوات، والرجل يقدم نفسه كسياسي لا كجهادي سابق مر برحلة تحولات براجماتية وعجيبة وللصدفة فيها عامل هام، فـ”الجولاني” اعتقل في العراق عام 2004 وتعرف في السجن على كبار قيادات “داعش”- عرف وقتها بدولة العراق الإسلامية- وساهم ذلك في ما بعد في ابتعاثه للعراق حين قرر أبو بكر البغدادي إنشاء فرع له في سوريا تحت مسمى جبهة النصرة، وللمفارقة كان المرشح الأول لإمارة هذا الفرع أبو محمد العدناني (الشامي)، المتحدث باسم داعش حينها، لكن اختير الجولاني بدلا منه لحدة في طبع العدناني وشكوك في قدرته على تجميع الجهاديين حوله إذا ما قاد الفرع في بداية عهده، ثم ما لبث “الجولاني” ورفيقه “أبو مارية القحطاني” أن انقلابا على “البغدادي” بعد أيام من لقاء شهير بينهما وهو لقاء بكي فيه “الجولاني” متصنعًا ليدفع عن نفسه الاتهام بأنه يريد نقض بيعة “البغدادي”، وهو ما تم بالفعل لاحقا، وكذلك فعل مع أمير القاعدة أيمن الظواهري الذي راسله عن طريق أبو خالد السوري ثم بايعه ليستعين به للإفلات من قبضة “البغدادي”، قبل أن ينقض بيعته هو الآخر لاحقًا تحت مسمى “فك الارتباط” الذي أبلغ “الجولاني” “الظواهري” أنه مجرد خطوة شكلية ظاهرية وأن الروابط بينهما ستظل قائمة لكنه كان يخادع كعادته، وبعد فترة ليست طويلة فتحت “تحرير الشام”قنوات اتصال سرية مع الولايات المتحدة وسعت لتجميل وجهها وتقديم نفسها في ثوب جديد يناسب العمل السياسي، بل وفتح رفيق “الجولاني” أبو مارية القحطاني قناة اتصال مع التحالف الدولي لحرب داعش، وتعاونا معًا في تصفية قيادات داعش وتنظيم حراس الدين (فرع القاعدة السوري) وبعض الجهاديين المستقلين.
وبغض النظر عن كم تفاصيل كبيرة وهامة متعلقة بعوامل متداخلة في مشهد درامي ومعقد، فالمستقبل الآن تتشكل ملامحه، وفيه يتم إعادة تقسيم خريطة السيطرة في سوريا بين الفواعل الحالية وهم النظام، وقوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية، والفصائل المسلحة (تحرير الشام، والجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا)، وهذه التقسيمة ترتبط بالقوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع وفي مقدمتها تركيا وأيضًا بطبيعة الأوضاع الميدانية فما زال الموقف العسكري يقود الموقف السياسي.
وبالوتيرة الحالية والزخم الحالي فقد يفقد النظام السوري حمص وليس مستبعدًا أن يخسر دمشق أيضا مع أن معركة دمشق يفترض أن لا تكون كبقية المعارك لكن الواقع يقول إنه ليست هناك معارك بل انسحاب وكأنه تسليم وتسلم للمدن! وبالطبع سقوط دمشق يعني رحيل بشار الأسد الذي يبدي داعموه تململ شديد منه ورغبة في عدم مساعدته بعد كل ما حدث، بيد أن معركة دمشق وسقوطها ليس مجرد عمل عسكري فهو قرار سياسي بالأساس لا يملكه الفاعلون من غير الدول الناشطين على الساحة السورية بل تملكه القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في المشهد السوري وقد كانت دمشق قريبة من السقوط من ذي قبل لكن تدخل هؤلاء الفواعل وتفاهماتهم حالت دون ذلك.
وفي النهاية فسقوط “دمشق” أو الإطاحة بالنظام السوري سيكون لها ارتدادات على المنطقة العربية ككل وعلى دول الجوار السوري خاصةً العراق، وستبقى مسألة شكل وطبيعة الدولة السورية في مرحلة ما بعد الأسد قضية معقدة ستتنازعها مصالح إقليمية وأهواء داخلية وتعقيدات طائفية وديمواغرفية، وعل كل فالمنطقة تمر بمخاض عسير يفرض على الدول العربية أن تتعاون وأن تعيد النظر لأولويات الأمن القومي العربي والاستراتيجيات المتبعة لتحقيقه لأن المنطقة ككل مرتبطة جغرافيا وتاريخيا واجتماعيا وثقافيا وبالتالي فالارتدادات السلبية لن تطال دول بمفردها بل سيكون لها صدى في دول أخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى