مقالة رأي

مقالة رأي: سقوط بشار الأسد.. مستقبل سوريا والأسئلة الصعبة

كتب: أحمد سلطان – مسئول برنامج دراسات التطرف بالمركز.

بلا كثير مقدمات، فالحدث أجل من أن يخفى، يبقى السؤال الأهم والأصعب الآن كيف سيكون مستقبل سوريا؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال يُجمع السوريون بكل أطيافهم واختلافاتهم أن الوضع مهما كان فلن يكون أسوأ مما كان في ظل حكم بشار الأسد، وهذا صحيح بغض النظر عن تفاصيل كثيرة ومضنية.
أما الآن، فالحديث عن مستقبل سوريا يبدأ من الواقع الحالي والتطورات الدرامية، حرفيا، والمفاجئة، ولعلي لا أُبالغ إن قلت إنه لا يوجد من يمتلك تصور حقيقي لمستقبل سوريا من كل الفرقاء، فالكل كان مشغولا بأولويات مختلفة طوال السنوات الماضية، والتصورات التي طُرحت في عمومها تصورات مبتسرة لأنها لم تكن مستعدة ومتخيلة للحظة إسقاط النظام على الحقيقة.
وخلال تلك السنوات، طُرحت تصورات عديدة منها الفيدرالية وغيرها، وذلك انطلاقًا من واقع الجغرافيا السورية المقسمة فعليا، منذ سنوات، ومع ذلك فالوصول لتفاهمات كاملة بشأن مستقبل الحكم والإدارة ثم إعادة الإعمار في سوريا لن يكون أمرًا يسيرًا وهذا المستقبل لن يصوغه الفرقاء السوريون المتشاكسون فقط بل ترسمه قوى إقليمية ودولية وتتداخل فيه الديناميات الداخلية والطائفية في بلد يعيش على “جغرافيا قلقة” شهدت قيام دول وإمبراطوريات وأنظمة وانهيار أخرى.
ودون دفن للرأس في الرمال، فهذا المستقبل سيكون فيه تفاهم اسمه “أمن إسرائيل” والحفاظ على خطوط السيطرة الحالية- هذا في أحسن الأحوال أما اسوأها فسيناريو قاتم- وهذا سيتم بالتفاهم مع القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع، وبالطبع هذا لا يختلف عن الوضع أيام حكم البعث الذي كان ضامنًا لأمن إسرائيل مع تدثره برداء وشعارات المقاومة والممانعة وحق الرد المكفول، وهو رد لم يحدث أبدًا حتى لا يُزايد البعض بهذا الصدد.
وبما أننا أشرنا لهذه النقطة، فلا ينبغي إغفال حقيقة أن محور المقاومة الذي تُشكل إيران القلب والمحور الرئيس له هُزم وتلقى ضربات قوية، وخسر سوريا الآن، وهذا يعني أن استراتيجية “الخنق وقطع خطوط الإمداد” التي تسميها تل أبيب أحيانًا بـ”الخنق الاستراتيجي” لحزب الله أضحت أمرًا واقعًا، وهو ما أشرنا له في مقالنا السابق، والحزب الآن سيواجه صعوبات جمة في إعادة بناء نفسه وتعويض مقدراته التي خسرها في جولة المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، وهذا معناه حدوث تحولات على الساحة اللبنانية والإقليمية أيضًا سينزاح معها حزب الله عقود للوراء بحيث يصبح حركة مسلحة محلية في السياق اللبناني، وهذا لا يعني أن طموحه الإقليمي أو ارتباطه بنظام الولي الفقيه في طهران سينتهي، لكن واقع الحياة لا تشكله الطموحات فقط بل الطموحات التي تتوافر الإمكانات لتحقيقها، وهذا في حالة “محور المقاومة” غير ممكن بعد الهزائم الأخيرة وانزواء إيران المثخنة بجراح خسارة ما بنته في عقود من “الصبر الاستراتيجي” لتجد نفسها الآن مرغمة على “صبر آخر طويل” بل ومهددة بصورة غير مسبوقة بعد سنوات من الصعود الإقليمي على سلاح المليشيات واستثمار الفوضى والذي هوى بها في نهاية المطاف.
وعلى الجهة الأخرى، يبدي كثير من المراقبين، في الوقت الحالي، تخوفًا من حدوث اقتتال واسع النطاق بين الفصائل والتشكيلات المسلحة في سوريا خصوصًا مع كثرتها وتعددها، وهنا يبرز النموذج الأفغاني بعد الحرب السوفيتية الذي اقتتلت فيه الأحزاب الأفغانية في ما بينها، وهذا الرأي ينطلق من القياس على تجارب تاريخية عديدة ولا يمكن، بأي حال إغفال احتمالية حدوث هذا الأمر، ومع ذلك فالنظر للواقع السوري والتطورات الحاصلة على مدار السنوات السابقة يبين الكثير فهيئة تحرير الشام وهي تحالف جبهوي من فصائل إسلامية مسلحة، قامت بتفكيك غالبية الفصائل الكبرى المناوئة لها وبالتالي انحسر المشهد عن بضعة فواعل مسلحة أولها الهيئة وعلى رأسها أبو محمد الجولاني الذي يستخدم اسمه الرسمي الآن “أحمد الشرع”، وفصائل الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الذي يُقاتل كل هؤلاء ولديه استراتيجية خاصة به.
وبالفعل سبق أن حدث اقتتال بين كل هؤلاء الفواعل وما زالت هناك مواجهات في بعض المناطق لكن بالنظر للتدخلات المعقدة في الواقع السوري فغالبا ما ستلجأ تركيا التي تنسق مع هيئة تحرير الشام وتدير الجيش الوطني السوري إلى التفاهم مع الولايات المتحدة بشأن ضمان ترتيبات مستقبلية لسوريا تضمن فيها تركيا عدم وجود تهديد كردي على حدودها، وهذا يستلزم الآن استمرار المعارك الرامية لطرد قوات سوريا الديمقراطية من أرياف حلب ومنعها من الاقتراب من الحدود السورية التركية، وقد يتطور الأمر إلى أكثر من ذلك على حسب التفاهمات الأمريكية التركية واستعداد كلا من واسنطن وتركية لتقديم تنازلات مقابل مكاسب ومصالح في سوريا والمنطقة ككل، وبالتالي سيبقى التساؤل عن طبيعة هذه التفاهمات وما يرتبط بها سؤالا صعبًا ينتظر إجابة مع التسليم بأنه دون حل عادل للقضية الكردية فلن يكون هناك استقرار حقيقي في الدولة السورية المستقبلية؟
وفي سياق آخر، يبقى خطر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ماثلا في سوريا ومنطقة الهلال الخصيب، فالتنظيم لم يختفِ طوال السنوات الماضية، وظلت سراياه تشن الهجمات ضد الجيش السوري النظامي التابع لبشار الأسد (سابقًا) في البادية الشامية مترامية الأطراف، وكانت سببًا مباشر في استنزافه، وأيضًا تشن هجمات ضد قوات سوريا الديمقراطية التي تحتجز عشرات الآلاف من مقاتلي التنظيم وأسرهم في سجون ومخيمات في شمال شرق سوريا، وهذا يعني أن تحدي محاربة تنظيم الدولة الإسلامية أو مكافحة الإرهاب سيكون واحدًا من التحديات الخطرة في مستقبل سوريا، بجانب تحدي شكل وطبيعة وإدارة الدولة، وبالطبع قد يؤدي استمرار نشاط التنظيم إلى تقويض كبير للوضع الجديد في سوريا.
ودون إغفال التهديدات الأمنية المحدقة بسوريا والتفاهمات الإقليمية والدولية التي تأتي في إطار إعادة صياغة خريطة النفوذ والسيطرة في المنطقة، تبقى إدارة العملية السياسية مسألة محورية في المستقبل السوري، واللافت أن هيئة تحرير الشام، ذات الجذور الإسلامية الجهادية الصرفة، أبدت تغييرا مثيرا للاهتمام والجدل في خطابها السياسي لتعكس انفتاحها على الفرقاء السوريين ودول الجوار السوري حتى أنها طلبت من رئيس وزراء النظام السابق محمد الجلالي البقاء في منصبه لحين إتمام عملية تسلم وتسلم السلطة، وبالطبع هذا خطاب مختلف عن خطابها السابق، ومن يتابع مسيرة الهيئة وزعيمها أحمد الشرع/ أبو محمد الجولاني يجد رحلة تحولات عجيبة مدفوعة بالبراجماتية التي هدفت في النهاية إلى التسويق السياسي للهيئة وزعيمها، وهو ما يمكن أن نعتبره قد تم بنجاح حتى اللحظة.
بيد أن الحكم على جدية وانفتاح الهيئة وكذلك غيرها من القوى السياسية والعسكرية النشطة على رقعة الشطرنج السورية لا يمكن أن يتم من مجرد تصريحات بل من خلال الأفعال، فما زال المسار السياسي طويلا والتفاهمات والتوافقات على مستقبل سوريا كذلك، والآن الأولوية هي للحفاظ على مؤسسات الدولة ثم الاستقرار على إدارة المرحلة الانتقالية وعملية نقل السلطة بما في ذلك صياغة دستور سوري يحظى بالتوافق من مختلف الأطياف، وكذلك إتمام عملية مصالحة وطنية بعد سنوات الدم والانطلاق منها لعملية إعادة إعمار سوريا لضمان عودة المهجرين واللاجئين الذين تقطعت بهم السبل في كل درب ودولة.
وكما تقول أدبيات إدارة الأزمات التقليدية فكل أزمة تحمل فرصة وتهديد، والآن الفرصة الذهبية ماثلة لإعادة بناء سوريا وإجراء عملية تحول حقيقية فيها بعد عقود طويلة من حكم البعث البائس الذي بدأ عام 1971، وهذه الضمانة الوحيدة لاستقرار البلاد أما التهديد فهو من الأطماع الداخلية والخارجية ورغبة بعض الفرقاء وأصحاب المصالح والأهواء في قطف الثمرة واقتسام الكعكعة دون النظر لواقع البلاد، وهؤلاء هم آفة كل بلد وكل مرحلة انتقالية، وفي النهاية ستكون النتيجة والمسار من اختيار السوريين أنفسهم الذين إن أضاعوا هذه الفرصة فقد لا يحصلون عليها إلا بعد عقود من التضحيات والقهر والاستبداد الذي أثبت التاريخ أنه يقود إلى الدمار دائمًا مهما اجتهدت دوائر المصلحة الملتفة حوله في تجميل وجهه أو الترويج لحقيقة تخالف جوهره، ولعل دروس الأزمة السورية تكون مفيدة لمن أراد التعلم حتى لا تتكرر الأخطاء، فمن لا يعي التاريخ لا يمل من تكرار أخطاءه.

زر الذهاب إلى الأعلى