دراسات التطرف

التحولات في سوريا ومستقبل الإسلام السياسي في العالم العربي: قـراءة تحليلية

إعداد: ياسمين محمود حامد البوني – باحثة مشاركة.

على مدار أكثر من خمسة عقود، هيمن النظام السوري بقيادة عائلة الأسد على مفاصل الدولة، مما جعل البلاد نموذجًا للاستبداد السياسي والإقصاء المجتمعي. هذا النظام، الذي شكل جزءًا من المشهد العربي التقليدي، انتهى في عام 2024 وسط تغييرات جذرية طالت سوريا والمنطقة العربية ككل. إن سقوط النظام السوري فتح الباب أمام تحولات معقدة تمتد تأثيراتها خارج الحدود السورية، ما أثار تساؤلات عميقة حول مستقبل القوى المختلفة التي ستسعى لملء هذا الفراغ السياسي والأيديولوجي.

    في هذا السياق، يبرز الإسلام السياسي كلاعب محتمل، يحمل تاريخًا طويلًا من الحضور والتأثير في العالم العربي، رغم ما شهده من تراجع في السنوات الأخيرة. فهل يمكن لهذه الحركات أن تستعيد بريقها في ظل المشهد الحالي؟ أم أن التحولات الراهنة ستدفعها إلى مزيد من التراجع والتفكك؟ للإجابة على هذه التساؤلات، لا بد من قراءة عميقة تشمل الجذور التاريخية للإسلام السياسي، خريطة أبرز تنظيماته في سوريا، والفرص والتحديات التي قد تواجهها في المستقبل.

  • المحور الأول: الإسلام السياسي في سوريا: ماضٍ معقد وحاضر مضطرب

       1. الإخوان المسلمون: من المعارضة إلى المقاومة

    يشكل تاريخ الإخوان المسلمين في سوريا مثالًا على التحولات المعقدة للإسلام السياسي في ظل الأنظمة الاستبدادية والصراعات الإقليمية. فقد تأسست جماعة الإخوان المسلمين في سوريا عام 1945، مستوحاة من الحركة الأم في مصر بقيادة حسن البنا، حيث سعت إلى إحداث تغيير اجتماعي وسياسي في مجتمع سوري كان في ذلك الوقت يعاني من القمع السياسي والتهميش الاجتماعي. في ظل الحكومات القومية التي اتسمت بالاستبداد، مثل نظام الرئيس السوري شكري القوتلي، في هذا الأطار، وفرّت الجماعة مساحة للحركات الاجتماعية التي كانت تطالب بالإصلاحات السياسية والاجتماعية في سوريا[1].

     جدير بالذكر إن علاقة الجماعة مع الدولة السورية تتسم بالاحتكاك المستمر، حيث استغلّت الجماعة غضب العديد من السوريين ضد السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي فرضها النظام القومي. وعلى الرغم من أن الإخوان كانوا في البداية يعملون على تقديم نموذج وسط بين التيارات اليسارية واليمينية، إلا أن التطورات السياسية في المنطقة ومع تصاعد الضغوط الإقليمية حول القضية الفلسطينية، أظهرت الجماعة كمنافس قوي للسلطة الحاكمة، مما جعل النظام السوري يراها تهديدًا مباشرًا على استقرار حكمه[2].

    في السبعينيات، شهدت العلاقة بين النظام السوري وجماعة الإخوان تصاعدًا في التوتر، خاصة مع سياسة الرئيس حافظ الأسد في توطيد السلطة على حساب المعارضة السياسية. ومع اشتداد هذا التوتر، وصل الصراع إلى ذروته في فبراير 1982، عندما قامت الجماعة بثورة مسلحة ضد النظام في مدينة حماة، وهو ما أفضى إلى عملية قمع دامية من النظام أسفرت عن مقتل آلاف من أفراد الجماعة، وهو ما عرف بمجزرة حماة. تلك اللحظة شكلت نقطة فاصلة في تاريخ العلاقة بين الجماعة والنظام، حيث نجحت السلطة في سحق المقاومة المسلحة، وأدى القمع الوحشي إلى تراجع دور الإخوان بشكل كبير.

   رغم هذه الهزيمة العسكرية، لم تتوقف جماعة الإخوان عن العمل تحت الأرض. فقد حافظت على شبكة من العلاقات مع قوى إقليمية ودولية، خاصة في دول الخليج العربي وتركيا. من خلال هذه العلاقات، تمكنت الجماعة من الحفاظ على وجودها واستمرار تأثيرها، رغم الملاحقة المستمرة من قبل أجهزة الأمن السورية. لكن الأحداث الكبرى في المنطقة، مثل غزو العراق عام 2003، جعلت الإخوان السوريين يعيدون تقييم موقفهم السياسي واستراتيجياتهم المستقبلية، في ظل التحولات الإقليمية التي شهدتها المنطقة[3].

2. الثورة السورية عام 2011: العودة إلى المشهد السياسي

     مع اندلاع الثورة السورية في 2011، كانت جماعة الإخوان المسلمين في وضع مثير للاهتمام، حيث وجدوا أنفسهم في قلب أحداث سياسية غير مسبوقة. لم يكن المشهد السوري مستعدًا لظهور جماعة الإخوان كقوة معتدلة فحسب، بل كان يعج بتنافسات بين قوى إسلامية متباينة، حيث كان هناك تنظيمات جهادية مثل “جبهة النصرة” (التي أصبحت لاحقًا “هيئة تحرير الشام”)، وتنظيمات أخرى مثل “أحرار الشام”، التي تبنت أجندة إسلامية أكثر تطرفًا[4]

     في هذا السياق، كانت جماعة الإخوان المسلمون تسعى إلى إظهار نفسها كحركة وطنية معتدلة، قادرة على قيادة المعارضة السورية وتوحيد القوى السياسية ضد نظام الأسد. من خلال دعم الثورة الشعبية، كانت الجماعة تأمل في أن تحقق نتائج سياسية من خلال المشاركة في إنشاء الكيانات السياسية مثل “المجلس الوطني السوري”، الذي تم تشكيله في 2011 كمظلة سياسية للمعارضة. لكن، سرعان ما تبين أن التحديات السياسية في الداخل كانت أكبر مما كانت تتصورها الجماعة.

3. تحديات العودة: انقسام الإسلام السياسي وصعود التطرف

     لم يكن الطريق أمام الإخوان ممهدًا بسهولة، فقد واجهت الجماعة واقع معقد يتسم بوجود تنظيمات إسلامية أكثر تطرفًا، مثل “جبهة النصرة” و”داعش”، التي نجحت في تقديم نفسها كقوة عسكرية فاعلة في الميدان السوري، مستفيدة من الفوضى والفراغ الأمني الذي نشأ بعد بدء الصراع السوري. بينما سعى الإخوان إلى تقديم أنفسهم كحركة إسلامية “معتدلة”، كانت الجماعات الجهادية تستفيد من عمليات التضييق والضغط العسكري لزيادة نفوذها، مما أدى إلى تهميش دور الإخوان في بعض المناطق التي كانت تسيطر عليها فصائل مسلحة متطرفة[5].

    علاوةً على ذلك، تسببت الصراعات الداخلية في صفوف جماعة الإخوان في سوريا في إضعاف موقفهم. فالنزاعات حول القيادة وأولويات العمل السياسي بين الأفراد والتيارات المختلفة داخل الجماعة كانت تؤثر على فعاليتها في توجيه الثورة أو المشاركة في بناء سوريا ما بعد الأسد. هذا بالإضافة إلى المشكلات الداخلية في الحركة نفسها مثل الافتقار إلى رؤية سياسية موحدة بين قيادات الداخل والخارج[6].

4. دور الإخوان في مستقبل سوريا: بين المقاومة السياسية والعمل المدني

     رغم كل هذه التحديات، لا تزال جماعة الإخوان السوريين تحتفظ بنفوذ سياسي في بعض المناطق، خصوصًا في شمال غرب سوريا، وذلك عن طريق تواجدهم من خلال “هيئة تحرير الشام” في إطار ما يعرف بـ “الائتلاف السوري المعارض”. ورغم محاولات الجماعة تجاوز أيديولوجيتها الجهادية التقليدية، فإنها لا تزال تمثل جزءًا من المعادلة السياسية في سوريا المستقبلية، سواء من خلال المشاركة في العملية السياسية أو التأثير على المستقبل الاجتماعي والديني في البلاد.

   من هنا، يبدو أن جماعة الإخوان المسلمون لا تزال تتأرجح بين استراتيجية “المقاومة السياسية” واستراتيجية “العمل المدني” عبر مشاركتها في النقاشات السياسية والاجتماعية. في المستقبل، قد تصبح الجماعة أكثر مرونة، بحيث تساهم في بناء بنية تحتية للمجتمع السوري ما بعد الأسد من خلال تقديم خدمات اجتماعية وتحقيق مصالح اجتماعية بعيدة عن الأيديولوجيا المتشددة. هذا التحول، إن حدث، قد يساعد الإخوان على الانتقال من كونهم حركة إسلامية معارضة إلى حركة اجتماعية تقدم حلولًا ملموسة للمشاكل التي يواجهها الشعب السوري في سياق ما بعد الصراع[7].

  • المحور الثاني: خريطة التنظيمات الإسلامية في سوريا: تشابك المصالح وتضارب الأهداف

     تعتبر الفصائل السورية المسلحة، بما في ذلك الجماعات الإسلامية، مكونًا مركبًا ومتعدد الأوجه في الصراع السوري. على مدار السنوات الماضية، شهدت هذه الفصائل تحولات كبيرة في استراتيجياتها وتوجهاتها الأيديولوجية، مما جعلها تتنافس على النفوذ العسكري والسياسي في ظل فراغ السلطة الذي نتج عن الحرب[8]. تكتسب هذه الجماعات دورًا مهمًا في رسم المستقبل السياسي لسوريا، ولكنها تواجه تحديات جمة تتعلق بالاستقطاب الإقليمي، والتحولات الداخلية، والصراعات الأيديولوجية.

1. هيئة تحرير الشام: القوة الصاعدة

    تأسست هيئة تحرير الشام في البداية كفرع لتنظيم القاعدة تحت اسم “جبهة النصرة” في عام 2012، وهي إحدى أبرز الفصائل السورية المسلحة التي برزت على الساحة في بداية النزاع. على الرغم من تبنيها للمفاهيم الجهادية في مراحلها الأولى، إلا أن الهيئة قد سعت، خاصة بعد انفصالها عن تنظيم القاعدة في 2016، إلى تقديم نفسها كقوة مستقلة ذات أجندة سياسية وعسكرية متمايزة[9].

     وتستفيد هيئة تحرير الشام من عدة عوامل أدت إلى تعزيز قوتها العسكرية في سوريا، أبرزها السيطرة على محافظة إدلب، التي أصبحت في السنوات الأخيرة معقلًا رئيسيًا لها. قيام الهيئة بتأسيس “حكومة الإنقاذ السورية” في إدلب يشير إلى طموحاتها السياسية التي تتجاوز مجرد الوجود العسكري إلى السعي لتقديم نفسها كبديل للنظام السوري في المناطق التي تسيطر عليها. لكن، رغم النجاحات العسكرية في بعض الجبهات، يظل تصنيف الهيئة كـ”جماعة إرهابية” من قبل المجتمع الدولي تحديًا كبيرًا يؤثر على قدرتها على استقطاب الدعم الخارجي، ويعرقل محاولاتها لتوسيع نفوذها السياسي.

    ومع التصعيد العسكري المستمر ضد الهيئة من قبل النظام السوري، وداعميه من إيران وروسيا، تظهر صعوبة قدرتها على البقاء كقوة مستقلة في ظل الضغط الدولي والإقليمي. هذا الضغط يهدد بتحويل الهيئة إلى أحد عوامل زعزعة الاستقرار الإقليمي، ويشير ذلك إلى أن الفصائل الجهادية مثل هيئة تحرير الشام ستكون محاصرة بين مطرقة الدول الغربية وسندان الدول الإقليمية المعارضة لها.

2. جيش الإسلام: الإسلام الوطني في مواجهة السلفية الجهادية

   على الرغم من أن “جيش الإسلام” ظهر في السياق السوري كفصيل إسلامي معتدل، سعى منذ تأسيسه في عام 2013 إلى دمج الإسلام مع النزعة الوطنية السورية. عمل جيش الإسلام على تقديم نفسه كـ”حركة إسلامية وطنية” قادرة على التفاوض مع القوى الدولية وتكوين تحالفات سياسية داخل المعارضة السورية، مستفيدة من زعاماتها العسكرية والإعلامية. هذا فضلًا عن إن قاعدتها الشعبية كانت تستند في جزء كبير منها إلى السعي لتحرير الأراضي السورية من قبضة النظام السوري واستبداله بنظام سياسي إسلامي معتدل[10].

    لكن رغم هذه الظهورات المبكرة، كانت هناك تحديات كبرى أثرت على مكانة جيش الإسلام، منها الهزائم العسكرية المتتالية في الغوطة الشرقية التي  أدت إلى تراجع نفوذ الجيش بشكل ملحوظ. بالإضافة إلى استنزاف قدراته في معارك ضد قوات النظام والضغط العسكري المكثف الذي تعرض له جعل من الصعب عليه الحفاظ على سطوته في المنطقة. ونتيجة لذلك، بدأ جيش الإسلام يعاني من انحسار تدريجي لمناطق سيطرته، مما دفعه إلى التحول إلى مناطق أخرى في الشمال السوري، حيث أصبح يشكل جزءًا من التشكيلات العسكرية في مناطق المعارضة السورية في الشمال الغربي. رغم محاولاته للحفاظ على دور بارز من خلال تعزيز شبكة العلاقات مع تركيا والدول الداعمة للمعارضة السورية، فإن جيش الإسلام بقي يواجه تحديات داخلية تتمثل في انقسامات صفوفه وتخلي العديد من فصائله عنه بسبب التوترات الإيديولوجية والسياسية، وهو ما أضعف من قدرته على فرض نفسه كلاعب رئيسي في المشهد السياسي والعسكري السوري[11].

3. حركة أحرار الشام:

    تعد حركة أحرار الشام واحدة من أولى الفصائل المسلحة التي ظهرت بعد بداية الثورة السورية عام 2011، وواحدة من أبرز الحركات التي حاولت توظيف الإسلام في خطاب ثوري يعارض النظام السوري. وكانت الحركة تسعى لتقديم نموذج إسلامي وسطى قادر على تمثيل مطالب الشعب السوري في الحرية والعدالة، مع المحافظة على الهوية الإسلامية في إطار الثورة ضد الأسد[12].

    ومع تقدم السنوات، اكتشفت حركة أحرار الشام صعوبة التوفيق بين الأيديولوجيا الجهادية من جهة، والواقع السياسي المعقد في سوريا من جهة أخرى. الصراعات الداخلية التي نشأت بين جناح الحركة المتشدد والمعتدل أدت إلى انقسامات فصائلية وضعت الحركة في مأزق سياسي. من ناحية أخرى، تعرضت الحركة لضغوط شديدة من فصائل جهادية أخرى، خاصة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في بدايات صعوده في سوريا، مما جعلها في وضع دفاعي دائم. ورغم محاولات الحركة للظهور كقوة إسلامية معتدلة يمكن أن تساهم في بناء سوريا ما بعد الأسد، إلا أن انقساماتها الداخلية، بالإضافة إلى الضغوط من القوى الخارجية سواء الإقليمية أو العالمية على تصنيفها جعلتها تواجه تحديات مستمرة في الحفاظ على دورها. هذا فضلًا عن المنافسة الشرسة من قبل الفصائل الأخرى الأكثر تطرفًا، مثل “هيئة تحرير الشام” و”داعش”، التي كانت تسعى إلى السيطرة على الأراضي السورية وتسوية الأوضاع لصالح أجنداتها الإيديولوجية[13].

  • المحور الثالث: فرص عودة الإسلام السياسي:

    رغم التحديات التي تواجهها حركات الإسلام السياسي في سوريا والعالم العربي، إلا أن البيئة الإقليمية الراهنة تقدم فرصًا لإعادة ترتيب صفوفها[14]. يمكن تحليل هذه الفرص من خلال ثلاثة محاور رئيسية:

1. الفراغ السياسي والأمني

    الدول التي تعاني من حروب أهلية وصراعات طويلة الأمد، مثل سوريا وليبيا واليمن، توفر بيئات مثالية لنمو حركات الإسلام السياسي. في هذه السياقات، تستغل هذه الحركات غياب سلطة الدولة لتقديم نفسها كبديل قادر على توفير الأمن والخدمات الأساسية. في سوريا، قد تعود جماعات مثل الإخوان المسلمين أو هيئة تحرير الشام للواجهة إذا فشلت القوى الأخرى في تقديم حلول عملية لإعادة بناء الدولة.

2. الأزمات الاقتصادية والاجتماعية

    الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في كثير من الدول العربية تمثل بيئة خصبة لتجنيد الشباب المحبطين. تقدم حركات الإسلام السياسي خطابًا يركز على العدالة الاجتماعية وتوفير الخدمات، مما يجعلها جذابة للفئات المهمشة. في سوريا، قد تجد هذه الحركات فرصة لاستقطاب النازحين والمحرومين الذين فقدوا الثقة في القوى التقليدية.

3. غياب الديمقراطية والتعددية السياسية

    في الدول التي تفتقر إلى نظم ديمقراطية حقيقية، تستطيع حركات الإسلام السياسي تقديم نفسها كبديل للأنظمة الاستبدادية. القضايا الكبرى مثل الفساد والعدالة الاجتماعية تمثل أوراقًا رابحة لهذه الحركات، خاصة في ظل فشل الأنظمة الحاكمة في تلبية تطلعات شعوبها.

  • المحور الرابع: استشراف المستقبل: سيناريوهات محتملة

     مع سقوط النظام السوري في عام 2024، تشهد المنطقة العربية تحولات سياسية واجتماعية عميقة قد تعيد تشكيل خريطة القوى الفاعلة. في قلب هذه التحولات، يبقى الإسلام السياسي ظاهرة معقدة، تتراوح احتمالاتها بين الصعود والانحسار، حيث تتشابك العوامل السياسية، الاجتماعية، والدينية في رسم ملامح المستقبل. هذه الحركات قد تواجه تحديات جمة في التكيف مع المتغيرات الداخلية والإقليمية، مما يجعل مستقبلها في غاية التعقيد[15].

  • السيناريو الأول: استمرار تراجع الإسلام السياسي

    في ظل الظروف الراهنة، يُعد هذا السيناريو الأقرب للواقع، حيث تواجه حركات الإسلام السياسي انحسارًا واضحًا على مستوى الشعبية والدور السياسي. التجارب السابقة في الحكم، سواء في مصر أو تونس، كشفت محدودية هذه الحركات في تقديم نموذج فعّال لإدارة الدولة، مما أدى إلى ما يمكن وصفه بـ”أزمة الشرعية السياسية”؛ وقد نجحت الأنظمة الحاكمة، بدعم إقليمي ودولي، في ترسيخ سياسات الإقصاء السياسي، ومنعت الحركات الإسلامية من إعادة التموضع أو تشكيل تهديد حقيقي. هذا ما يُعرف بـ”سياسة الحصار السياسي”، التي تعتمد على تضييق مساحة العمل السياسي لهذه الحركات وإضعاف قدرتها على إعادة البناء. ورغم ذلك، يبرز تحدٍ كبير يتمثل في أن هذه السياسات قد تؤدي إلى نتائج عكسية، حيث يمكن لبعض الحركات أن تلجأ إلى العمل السري أو حتى العنف كوسيلة للتعبير عن وجودها. لكن في المجمل، فإن البيئة السياسية والاجتماعية الحالية لا تبدو مواتية لعودة هذه الحركات كقوة رئيسية.

  • السيناريو الثاني: الإسلام السياسي كبديل عملي

   في هذا السيناريو، تسعى حركات الإسلام السياسي إلى إعادة تقديم نفسها كبديل مقبول عبر خطاب يركز على الحوكمة الرشيدة والتنمية الاقتصادية، مع التخلي عن الشعارات الأيديولوجية التي أثبتت فشلها. لتحقيق ذلك، تحتاج هذه الحركات إلى تبني “التحول الأيديولوجي” والتعاون مع قوى سياسية مختلفة لإظهار قدرتها على حل الأزمات. ومع ذلك، تواجه هذه الحركات تحديات كبيرة، أبرزها الإرث السلبي الذي خلفته تجاربها السابقة، وضعف قدرتها على بناء تحالفات قوية مع القوى الأخرى. كما أن الأنظمة القائمة ستظل عائقًا رئيسيًا أمام أي محاولات لإعادة تموضع الإسلام السياسي.

  • السيناريو الثالث: انزلاق الإسلام السياسي نحو التطرف

    في بيئات تعاني من هشاشة الدولة وانهيار المؤسسات، مثل سوريا وليبيا، قد تجد بعض الحركات الإسلامية نفسها مضطرة للجوء إلى العنف والتطرف كوسيلة لاستعادة نفوذها. الفراغ السياسي والأمني يخلق فرصة لظهور جماعات متطرفة قادرة على ملء هذا الفراغ، وهو ما يشكل تهديدًا للاستقرار الإقليمي. لكن هذا السيناريو يواجه تحديات كبيرة، أبرزها فقدان الدعم الشعبي والدولي لأي حركة تلجأ إلى العنف، مما يجعل خيار التطرف محفوفًا بالمخاطر. إضافة إلى ذلك، فإن التدخل الدولي السريع في المناطق المضطربة يحد من قدرة هذه الحركات على التوسع.

  • السيناريو الرابع: اندماج الإسلام السياسي في تيارات مدنية

    يشير هذا السيناريو إلى احتمال تحول الحركات الإسلامية نحو الاندماج في المشهد السياسي كجزء من تيارات وطنية مدنية. يتطلب ذلك تبني أجندة ديمقراطية وإصلاحية، والتخلي عن الخطاب التقليدي لصالح قيم المواطنة والتعددية. ورغم أن هذا السيناريو يحمل فرصًا لإعادة صياغة دور الإسلام السياسي، إلا أن تحقيقه يتطلب قبولًا واسعًا من داخل الحركات الإسلامية وخارجها، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا في ضوء الانقسامات الداخلية والرفض المجتمعي لهذه الحركات. ولكن هذا السيناريو يتطلب تغيرات جوهرية في طبيعة الإسلام السياسي وعلاقته بالمجتمع والقوى السياسية الأخرى.

   ختامًا، يُعَدّ مستقبل الإسلام السياسي في العالم العربي من القضايا التي تشكل تحديات متعددة ومعقدة. تلك الحركات، التي لطالما ارتبطت بالإيديولوجيا الدينية، تجد نفسها اليوم في مفترق طرق، حيث تضعها التحولات السياسية والاجتماعية أمام اختبار حاسم وهو إمكانية إعادة تشكيل نفسها لتصبح جزءًا من المنظومة السياسية الحديثة التي تركز على العدالة الاجتماعية والاستقرار، أم أنها ستظل في دوامة من التهميش أو المواجهة مع الأنظمة الحاكمة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تتوقف على العديد من العوامل، أهمها قدرتها على التكيف مع المتغيرات المحلية والإقليمية، ومدى استعدادها للتخلي عن الخطاب التقليدي الذي يعتمد على الشعار الديني ليصبح جزءًا من مشروع سياسي مدني وشامل.

    من جهة أخرى، تُظهر تجارب الماضي أن الحركات الإسلامية السياسية قد تكون عرضة لتحديات هائلة عند محاولتها للتكيف مع المتغيرات الجديدة. فقد واجهت هذه الحركات إخفاقات كبرى في العديد من الدول العربية بعد وصولها إلى السلطة، كما في مصر وتونس، حيث فشلت في توفير حلول واقعية وفعّالة للأزمات الاقتصادية والسياسية، مما أدى إلى انهيار مصداقيتها وفقدان الثقة بها. هذه التجارب ساهمت في تعميق ما يمكن تسميته بـ”أزمة الشرعية”، وهي أزمة عميقة في العلاقة بين هذه الحركات والمجتمعات التي طالما شكلت قاعدة دعمها. وما يجعل هذه الأزمة أكثر تعقيدًا هو رفض الأنظمة الحاكمة في العديد من البلدان العربية إعطاء أي مساحة للحركات الإسلامية للعودة إلى الساحة السياسية، وذلك بدعم دولي يهدف إلى عزل هذه الحركات وإضعافها.

   وفي هذا السياق، قد تصبح الحركات الإسلامية السياسية في حاجة إلى “الديمقراطية التوافقية”، وهو نمط من الحكم يتيح لجميع الأطراف السياسية، بما في ذلك الحركات الإسلامية، المشاركة في العملية السياسية بشكل يضمن تحقيق مصالح جميع الأطراف المعنية. هذه الديمقراطية التوافقية قد تتضمن عناصر من الحوار المستمر، التفاوض، والتفاهم، بحيث تبتعد الحركات الإسلامية عن مسار المواجهة والتصادم مع الأنظمة والقوى الدولية.


[1] فواز جرجس، الإسلام السياسي في العالم العربي بعد الربيع العربي، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015).

[2] . كارنيجي للشرق الأوسط، “الإخوان المسلمون بين المعارضة والحكم” ، مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، 2020، https://carnegie-mec.org

[3]. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، “الحركات الإسلامية والتغيرات السياسية في سوريا”، دراسة منشورة، 2018، https://dohainstitute.org

[4] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، “الحركات الإسلامية والتغيرات السياسية في سوريا”، دراسة منشورة، 2018، متاح على: https://dohainstitute.org، تاريخ الدخول: 24-12-2024

[5] ريتشارد هاس، “الحركات الإسلامية ومستقبل الشرق الأوسط”، في The Reluctant Superpower: United States and the Middle East، تحرير: ستيفن كوك، (نيويورك: دار نشر بيرسيوس، 2016).

[6] Lida Kajejian, The Muslim Brotherhood in Syria: A History of Political and Social Struggle, (Beirut: Dar al-Tali’a, 2009).

[7] Thomas Pierret, Political Islam in Syria: The Muslim Brotherhood Between Opposition and Armed Struggle, (London: I.B. Tauris, 2013).

[8]Joseph Keith, “Terrorism and the Power Vacuum in the Arab World,” Foreign Affairs, Vol. 94, No. 6 (2015): 43-57.

[9] رضوان زيادة، الإسلام السياسي في سوريا، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، العدد١٣٧، (٢٠٠٨م).

[10] Chris Collins, Jaish al-Islam: From Internal Struggles to the Limits of International Politics (Washington: Wilson Center, 2017).

[11] Thomas Hegghammer, “Jaish al-Islam: Islamic Identity and Armed Conflict,” Middle Eastern Studies Journal, Vol. 48, No. 3 (2016): 379-402.

[12] Charles Lister, Ahrar al-Sham: The Evolution of a Syrian Jihadi Group, (London: Brookings Institution, 2015).

[13] Aron Lund, “Ahrar al-Sham: From Revolution to Internal Strife,” Carnegie Middle East Center, 2016.

[14] مجلة الشؤون الدولية، “مستقبل الإسلام السياسي في ظل التحولات الإقليمية”، مجلة الشؤون الدولية، مجلد 47، عدد 3 (2020): 29-45.

[15] Wladimir van Wilgenburg, Eastern Syria After Assad, Diwan, December 10, 2024, link: Eastern Syria After Assad | Carnegie Endowment for International Peace, date of enter: 24-12-2024.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى