عن المسيرة الإبداعيّة للفن الروائي الإفريقي قراءة في كتاب: الرواية الإفريقية.. إطلالة مشهدية

إعداد: نِهاد محمود -باحثة متخصصة في الشئون الإفريقية -عضو مجموعة عمل الدراسات الإفريقية بالمركز
يحاول هذا الكتاب البحث في المشهد الروائي الإفريقي بدءًا من ظهور الرواية الإفريقية، وحتى اقتحامها للمشهد الروائي العالمي، وفيما تمثله من أداة هامة لنقل قضايا القارة الإفريقية في قالب أدبي متماسك ورشيق، مشيرًا إلى دور الوعي السياسي للكاتب الإفريقي وانعكاس ذلك على محاولته تبصير القارئ بملامح القارة الثقافية والاجتماعية والسياسية، سواء الحالية، أو تلك التي أوجدها المُستعمِر منذ أن وطئت قدماه أرض القارة.
وعليه تبرز أهمية هذا الكتاب في محاولته نقل واقع وقيمة الرواية الإفريقية، وتأثيرها داخل الحدود الوطنية وخارجها، إلى القراء الناطقين بالعربية ولفت انتباههم لأهمية وثِقَل الرواية الإفريقية والكُتَّاب الأفارقة وتسليط الضوء على منجزاتهم، كالكاتب النيجيري “وول سونيكا” أول مَن فاز بجائزة نوبل للآداب في القارة السمراء عام 1986، وغيرهم ممَن تركوا بصمة أدبية بمذاق إفريقي خالص.
أولًا: أقسام وبنية كتاب “الرواية الإفريقية.. إطلالة مشهدية”
انقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء رئيسية حاول فيها الكاتب تفنيد أبرز جوانب المشهد الروائي الإفريقي وجاءت هذه الأقسام على النحو التالي:
- الرواية الإفريقية واللُّغة.
- أمريكا والكُتَّاب الأفارقة الزنوج.
- الرواية الإفريقية التي تكتبها المرأة.
- السيرة الذاتية والتاريخ في السرد الإفريقي.
ثانيًا: أهم المضامين والأطروحات الواردة بالكتاب
1- الرواية الإفريقية وسوسيولوجيا الحياة
يركز الكاتب هنا على ارتباط الرواية الإفريقية بحركة المجتمع التي وُلِدَت خلاله، وأن القضايا والإشكاليات التي وُلِدَت ترتبط بالبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأوسع التي تحيط بها. في الوقت ذاته يؤكد الكتاب على ما شهدته الرواية الإفريقية من تطور كبير فيما يخص البناء الفني لنصوصها، على نحو عبَّر وجسَّد ملامح المجتمعات الإفريقية حينذاك، وما يحدث من أحوال تمس أفرادهم.
بقول آخر يمكننا القول أن الفن الروائي الإفريقي بمضامينه الخاصة يعد لونًا أدبيًا يمثل الإنسان الإفريقي بقضاياه وإشكاليات حياته المختلفة. وقد أثرى ذلك تنوع المواضيع والتيمات في الرواية الإفريقية، ما جعل لها سمتها الغالبة والطاغية عن غيرها من الروايات، وبخاصة ما يتعلق بإبراز العادات والموروث الإفريقية، والتي تختلف من بلدة لأخرى ومن قبيلة لغيرها. كذلك مثلت نزعات التمرد ضد القهر الاستعماري قيمة أخرى للمشهد الروائي الإفريقي، وما أنتجته من كتابات برزت خلالها الاحتفاء بسسيولوجية الحياة الإفريقية في صورها المختلفة، بما في ذلك النزعة ضد المستعمر الأبيض.
2- الرواية النيجيرية.. والتمرد على مظاهر الهيمنة الاستعمارية
يبحر الكاتب هنا في فكرة هامة مفادها أن الرواية النيجيرية مثَّلت أداة قيّمة للتمرد على مظاهرة التخلف والسيطرة الاستعمارية والحروب الأهلية الناشبة للاستحواذ على السلطة والموارد. وهو ما يرجعنا للفكرة السابقة المشيرة إلى كون الإنتاج الأدبي الإفريقي مرآة لما يحدث في الساحة الإفريقية، من مظاهر ثقافية، واقع مأزوم، كالحال في رواية “عنف” للروائي النيجيري “فيستش إيايي”، من خلال تجسيد ما تتعرض له شخصية الرواية “إيديموديا” من ضغوط مادية ونفسية يربطها بالواقع المجتمعي الأوسع الناتج عن صراع القبائل في القفز على السلطة ونزعة الهيمنة المسيطرة على الجميع. كما أراد الإشارة بمفردة “عنف” لما يبدو عليه المجتمع النيجيري، سواء من عنف الدولة أو عنف المجتمع وقسوة بعض من فئاته، وما يسود العائلة الواحدة من أشكال للعنف، بما في ذلك من تعاطي المجتمع مع وحداته وشرائحه الأصغر.
3- اللغات الإفريقية وهويّة السرد في الرواية الإفريقية:
في هذا القسم من الكتاب يركز المؤلف على الرواية الإفريقية المكتوبة بمفردات اللغات الإفريقية المحلية منذ مطلع القرن العشرين، كلغة التونجا في زامبيا والشونا في زيمبابوي، والزوسا والزولو في جنوب إفريقيا. وهو ما يسَّر على الكُتَّاب الأفارقة نشر رواياتهم باللغات المحلية لا باللغات الأوروبية، والتي ستتصدر المشهد الأدبي الإفريقي فيما بعد، مثل رواية “شكا” الصادرة عام 1925، والتي ترجمت إلى الفرنسية وألهمت الكثير من الكُتَّاب الأفارقة مثل “ليوبولد سنجور”، وهي نص طويل يروي ملحمة الإمبراطور الزولو “شكا” ونهايته المأسوية.
وعلى صعيد هويّة السرد الإفريقي التي تجلت فيما كتبه الروائيون الأفارقة، فقد ركزت على قوة النفس الأفريقية والاحتفاء بها، والاتكاء على هويتها الإنسانية الفريدة، وأهمية الأرض والقبيلة والوطن والدين في حياة الإنسان الإفريقي، بما في ذلك التوق الدائم والبحث عن الحرية المفقودة منذ زمن طويل، حيث كان المستعمر جاثم على صدر هذا الإنسان.
4- النص الروائي بعيون المرأة الإفريقية:
يستعرض الكتاب هنا الرواية التي تكتبها المرأة في القارة الإفريقية، والتي حملت رؤى متعددة، سواء من حيث التوجهات أو الأساليب أو الوجوه، كما حرص بعضهن على الانشغال بقضاياهن الملحة وحريتهن المسلوبة والعلاقة المضطربة مع الجنس الآخر، على نحو مثَّلت خلاله الرواية الإفريقية وجه الأنثى المتمردة لانتزاع حريتها الذاتية من الآخر الذكوري، على نحو يدعو لتقدير المرأة الإفريقية (الأم والأخت والابنة والزوجة).
لكن ليس هذا فحسب، بل حاولت الروائيات الإفريقيات الانخراط بقضايا عامة أخرى تخص المجتمع الإفريقي ككل، كقضايا المهجر والعودة ولمّ الشمل في الوطن من جديد، كما في رواية “بعيدة عن أبي” للكاتبة الإيفوارية “فيرونبيك تادجو”، وكذلك تسليط الضوء على مآسي التطهير العرقي والإبادة الجماعية، كما في رواية “حافية القدمين” للكاتبة الرواندية “شولا ستيك موكازونكا” والتي رصدت معاناة وطنها روندا وأفراد عائلتها الـ37 الذين لقوا حتفهم أثناء عملية التطهير العرفي في روندا عام 1994. وهكذا حوَّلت المرأة الإفريقية واقعها ومعاناتها المعاصرة إلى نصوص أدبية ثرية تُجسِّد المناخ السياسي المضطرب في قالب إنساني مذهل.
5- الرواية الإفريقية والسيَّر الذاتيّة:
يأخذنا الكاتب في الشق الأخير من الكتاب لاستكشاف أبرز الروايات الإفريقية التي أخذت شكل السيَّر الذاتية، كتاريخ شخصي يسرده الكاتب في قالب روائي شيق، وربما مؤلم، والذي يأخذ في اعتباره التاريخ العام المحيط، الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي.
ومن الهام التأكيد على أن هذا اللون من الكتابة السردية الذاتية امتلكت أهمية كبيرة في الأدب الإفريقي وبخاصة من الناحية السياسية، كمؤلَّف “الرجل الذي مات”، الذي يجسد مذكرات سجين” للكاتب الإفريقي “وول سوينكا”، ومؤلَّف “يجب أن ترحل في الفجر” وهي الجزء الثالث من سيرة سوينكا الأدبية والسياسية، التي يستعيد خلالها سيرة وطنه نيجيريا، وسيرة منفاه الطويل وأيام السجن. وبشكل عام في إفريقيا تجد أن السيرة الذاتية، تمثل نوع أدبي مناسب للسيطرة على الغضب والإحباط الشخصي، اللذين لا تفي به المقالة ولا القصة القصيرة.
خاتمة:
في الأخير تجد بين أوراق هذا الكتاب، الموجز في صفحاته، القيّم في أثره، محاولته الجادة لتقديم إطلالة شاملة لحال الرواية الإفريقية وما قدمته في ثنايا نصوصها من قيمة بالغة قادتها إلى مسيرة حافلة، تأثرت خلالها منذ ظهورها بمفردات إفريقية خالصة، وإشكاليّات ولدت من رَحِم السياق الإفريقي الثري والمؤلم، سواء في معاناة القارة خلال فترات الاستعمار الأكثر بؤسًا، أو فيما عكسته من تنوع القارة اللغوي والاثني والعرقي، وكذلك في الثقافات والموروثات بشكل أكثر عموميّة، على نحو ساعد في تشكيل بصمة إفريقية على نصوص الرواية الإفريقية، مُعَبِّرَة عن حال القارة وما عايشته، بماضيها وحاضرها.
مصدر الكتاب:
شوقي بدر يوسف، الرواية الإفريقية.. إطلالة مشهدية، (الإسكندرية: ليفانت للدراسات الثقافية والنشر، 2019).