ترجمة

ترجمات وعروض: إعادة النظر في نهج القاهرة تجاه الحرب الأهلية السودانية

منذ اندلاع الأزمة السودانية في أبريل/نيسان 2023 بين القوات المسلحة السودانية بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تجد مصر نفسها في وضع شديد التعقيد. فالقاهرة، المرتبطة تاريخيًا وجغرافيًا بالسودان، تنظر إلى استقرار جارتها الجنوبية باعتباره أمرًا حيويًا لمصالحها. وعلى الرغم من الجهود الدبلوماسية المكثفة، تواجه القاهرة تحديًا معقدًا في تحديد موقفها في الأزمة الحالية، حيث تتطلب الظروف الراهنة اتخاذ قرارات استراتيجية بحكمة.

     فمن ناحية، تظهر القوات المسلحة السودانية بقيادة البرهان توجهات إسلامية، ومع ذلك فهي آخر مؤسسة وطنية متماسكة نسبيًا في البلاد منذ انهيار نظام البشير. ومن ناحية أخرى، تعد قوات الدعم السريع ميليشيا قائمة على أسس قبلية ومدعومة من بعض الجهات الإقليمية، مما يجعلها غير موثوقة لبناء سودان ديمقراطي وحر.

     في عام 2023، أجرى أحد المؤلفين مقابلة مع المقدم تشاك ديفور – ضابط استخبارات سابق في الجيش الأميركي ومساعد خاص للشؤون الخارجية في وزارة الدفاع الأميركية – حول الوضع في السودان. وذكر أن “مصر يمكن أن تلعب دورًا أكبر في السودان إذا أرادت، حيث تتمتع القاهرة بتاريخ طويل وجغرافية ممتدة مع جارتها الجنوبية”. ودعا المنطقة إلى عدم انتظار مبادرة أميركية لاحتواء أزمة السودان من قِبل إدارة بايدن – الإدارة الأميركية في ذلك الوقت-، وأشار إلى أن أزمة السودان هي فرصة للاعبين الإقليميين النشطين، وخاصة مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، لمعالجة أزمات المنطقة”.

      ومع ذلك، ووفقًا للمؤشرات الأخيرة شهد الموقف المصري تحركات حتى لو بشكل مؤقت نحو دعم القوات المسلحة السودانية. وعلاوة على ذلك، أصبح الخطاب الأميركي ضد قوات الدعم السريع أكثر استهدافًا بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة، وبلغ ذروته في إعلان وزير الخارجية السابق بلينكن مؤخرًا أن الولايات المتحدة قد قررت أن قوات الدعم السريع ارتكبت إبادة جماعية. وبفضل بعض التشجيع الأميركي من جانب الإدارة الحالية، فإن هذا التحول قد يساهم مستقبلاً في التدخل المباشر لحل هذا الصراع، وهو ما قد يساعد في الدفع نحو التوصل إلى حل للصراع الذي ظل مستعصيًا حتى الآن.

مصر والسودان – تاريخ مشترك:

      لم يكن السودان، الذي يشترك مع مصر في حدود بطول 1276 كيلومترًا، مجرد جار؛ بل كان شريكًا تاريخيًا عبر عصور متعددة. فمنذ الحكم العثماني المصري إلى استقلال السودان، كانت العلاقات بين البلدين متشابكة بعمق. وعلى هذا النحو، فإن أي عدم استقرار في السودان يؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي المصري وموارده الحيوية، وخاصة مياه النيل.

     قبل اندلاع الحرب بين زعيم الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان ونائبه السابق، زعيم قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أجرت مصر والسودان تدريبات عسكرية مشتركة ونسقتا مواقفهما بشأن سد النهضة الإثيوبي على النيل. ففي مارس 2021، على سبيل المثال، أعلن الجيش المصري أن القوات المصرية والسودانية أجرت سلسلة من التدريبات العسكرية كجزء من المناورات المشتركة “نسور النيل 2”. وقد حدث هذا وسط توترات متصاعدة بين أديس أبابا والقاهرة والخرطوم بشأن قضية سد النهضة.

     منذ أبريل/نيسان 2023، تشهد السودان أزمة عسكرية حادة بدأت بتصاعد التوترات بين القوات المسلحة السودانية بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). وفي وقت اندلاع الصراع، كانت قوات الجيش المصري متمركزة في قاعدة مروي الشمالية، مما يسلط الضوء على مخاوف مصر بشأن استقرار جارتها الجنوبية. ومع ذلك، تصاعدت هذه التوترات إلى صراع مسلح تسبب في دمار كبير في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى، إلى جانب تفاقم الأزمة الإنسانية.

     في حين كان الموقف الرسمي لمصر هو الحفاظ على الحياد، ظهرت التوترات بين مصر وقوات الدعم السريع على الفور تقريبًا. في أبريل/نيسان من ذلك العام، أصدرت قوات الدعم السريع مقطع فيديو يظهر جنودًا مصريين أسرى وسط القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وتم تسليم الجنود لاحقًا إلى الحكومة المصرية من خلال الصليب الأحمر الدولي.

     واتهمت قوات حميدتي الطائرات المصرية بقصف معسكرات الدعم السريع، وفي مقطع فيديو اتهم حميدتي الجيش المصري بمهاجمة مواقع الدعم السريع في جبل مويا بولاية سنار. ومع ذلك، في سبتمبر/أيلول، نفى الجيش السوداني الحصول على طائرات K-8 من مصر، مؤكدًا أنه يمتلك أسرابًا من هذا الطراز من الطائرات منذ أكثر من 20 عامًا.

      وردًا على ذلك، أصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا نفت فيه تورط الجيش المصري في المعارك الدائرة في السودان ودعت المجتمع الدولي إلى التحقق من الأدلة التي تدعم مزاعم حميدتي. وأكد البيان أن “مصر ملتزمة بأمن واستقرار ووحدة السودان أرضًا وشعبًا، ولن تدخر جهدًا لتقديم كل الدعم الممكن للسودان في معالجة الأضرار الجسيمة التي سببتها الحرب”. ويرى بعض المراقبين أن اتهامات الدعم السريع لمصر هي جزء من محاولات حميدتي لتبرير الانتكاسات التي تعرضت لها قواته، خاصة بعد استعادة الجيش السوداني قوته وشن ضربات ناجحة في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.

     في أعقاب هذه الحادثة المبكرة، حاولت القاهرة تجنب الانحياز إلى أي طرف. حتى عندما اقتحمت ميليشيات قوات الدعم السريع قاعدة مروي، حيث كانت القوات المصرية متمركزة كجزء من التدريبات المشتركة قبل الحرب وأعلنت أسر أفراد مصريين، اختارت القاهرة المسارات الدبلوماسية لحل الأزمة.

     وشاركت القاهرة في المفاوضات التي توسطت فيها الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، والتي بدأت بعد وقت قصير من اندلاع الحرب في أبريل 2023، بهدف سد الفجوات بين الجانبين وإنهاء القتال. في يوليو 2023، دعت القاهرة رؤساء الدول المجاورة إلى قمة، وفي يوليو 2024، دعت القوى المدنية والسياسية السودانية للاجتماع في القاهرة للتوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب. صرح وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي خلال مؤتمر القوى المدنية والسياسية السودانية أن أي حل سياسي “يجب أن يقوم على رؤية سودانية بحتة، دون ضغوط خارجية”، مع التأكيد على أهمية “وحدة الجيش ودوره في حماية الوطن”.

     وفي أكتوبر/تشرين الأول، سلطت بيانات قوات الدعم السريع في السودان الضوء مرة أخرى على دور مصر في البلاد. فقد شنت قوات الدعم السريع هجومًا حادًا على مصر، وللمرة الأولى، ادعت وجود “أسرى مصريين” زعموا أنهم شاركوا إلى جانب القوات المسلحة السودانية في الحرب الدائرة.

     وزعم بيان قوات الدعم السريع أن “مصر الرسمية لم تغير موقفها لصالح المؤسسات العسكرية والأنظمة بشكل عام، ووقعت في تناقض بدعمها للجيش السوداني، الذي اختطفته جماعة الإخوان المسلمين في السودان بالكامل”. وأضاف البيان: “لم تتوقف الحكومة المصرية أبدا عن تقديم الدعم العسكري للجيش، بما في ذلك الأسلحة والذخائر وقنابل الطائرات والتدريب والدعم الفني والسياسي والدبلوماسي والإعلامي”.

السعي إلى إنهاء الصراع:

     مع تحول المشهد السياسي بشكل كبير في الشرق الأوسط، والذي اتسم بانهيار آخر نظام بعثي في ​​المنطقة (نظام بشار الأسد في سوريا) ومع تحول الاهتمام إلى الصراع الأكبر بين إيران وإسرائيل قبل عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير، لا تظهر الصراعات العنيفة والمستمرة في السودان بين القوات المسلحة السودانية وميليشيات قوات الدعم السريع أي علامات على الوصول إلى نهاية.

     قدرت الأبحاث التي أجرتها أربع جامعات أمريكية أن ما يقرب من 130 ألف سوداني لقوا حتفهم، بشكل مباشر وغير مباشر، خلال الحرب الحالية، التي استمرت لمدة 18 شهرًا. اعتبر البحث الصراع الحالي في السودان واحدًا من أكثر الصراعات دموية على مستوى العالم، لكنه يظل من بين أقل الصراعات التي تغطيها وسائل الإعلام، على الرغم من ارتفاع أعداد الضحايا بشكل مثير للقلق. وقد تأثرت القاهرة بشكل كبير بتداعيات الحرب، نتيجة للضغط على الموارد وحدوث توترات اجتماعية.

    وقد تعقد الوضع بسبب التدخلات الإقليمية والدولية في السودان. تشير التقارير إلى الدعم الروسي لقوات الدعم السريع من خلال مرتزقة فاغنر، في حين اتهمت الولايات المتحدة روسيا مؤخرًا بتأجيج الصراع السوداني ودعم الأطراف المتحاربة. وبحسب ما ورد تدعم إيران الجيش السوداني، في حين تقدم إثيوبيا، التي لا تزال في حالة توتر مع مصر بشأن سد النهضة، الدعم الدبلوماسي لقوات الدعم السريع.

      هذه الديناميكية تضع القاهرة في موقف محفوف بالمخاطر. إن استمرار الحرب يهدد بتصعيد القضايا الأمنية والإنسانية على الحدود الجنوبية لمصر في وقت تواجه فيه البلاد بالفعل تحديات كبيرة، بما في ذلك حرب غزة وعدم الاستقرار في ليبيا، التي تحد مصر من الشرق والغرب على التوالي. إن السماح للسودان بالوقوع تحت سيطرة الميليشيات القبلية المدعومة من الخارج يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري. إن وجود عناصر متطرفة وميليشيات مسلحة بالقرب من حدود مصر يزيد من المخاطر الأمنية، وخاصة مع إمكانية تسلل الشبكات الإجرامية والمتاجرين بالبشر.

    على الجانب الآخر، بعد تحالف الجيش السوداني مع الجماعات الإسلامية، أثيرت مخاوف من تورط روسيا وإيران في دعم أطراف متعددة في الصراع السوداني، خاصة بعد زيارة البرهان إلى طهران ووجود تقارير عن الدعم الإيراني، الأمر الذي من شأنه أن يطيل أمد الحرب ويزيد من زعزعة استقرار المنطقة، ويضيف أعباء كبيرة إلى مصر.

الإجراءات الأميركية ضد قوات الدعم السريع:

    اتخذت الولايات المتحدة موقفًا حازمًا بشكل متزايد ضد قوات الدعم السريع وزعيمها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بسبب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبتها هذه القوات. في سبتمبر/أيلول 2023، فرضت واشنطن عقوبات على قادة قوات الدعم السريع، بما في ذلك عبد الرحيم حمدان دقلو، نائب حميدتي، وعبد الرحمن جمعة، قائد قوات الدعم السريع في غرب دارفور، متهمة إياهم بارتكاب جرائم قتل خارج نطاق القضاء، وتعذيب، وانتهاكات أخرى لحقوق الإنسان.

     وخلال وقت سابق، أعلن وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن أن قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المتحالفة معها ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وتطهير عرقي. وأكد التزام الولايات المتحدة بمحاسبة المسؤولين عن هذه الفظائع. كما فرضت العقوبات الأميركية على حميدتي نفسه. في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تبنى الكونجرس الأميركي قرارًا يصنف انتهاكات قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها في دارفور على أنها “إبادة جماعية”، داعياً إلى محاسبة المسؤولين عنها.

      وفي ديسمبر/كانون الأول 2024، أشارت التقارير إلى أن إدارة بايدن تستعد لفرض عقوبات إضافية على قوات الدعم السريع وزعيمها حميدتي والشركات التابعة لها كجزء من جهودها لمحاسبة المتورطين في الانتهاكات الجارية في السودان. ويشير هذا التوافق إلى أن موقف مصر الحذر الأولي يتردد صداه مع موقف الولايات المتحدة إلى حد كبير. وقد أكد إعلان بلينكن اللاحق بأن قوات الدعم السريع ارتكبت إبادة جماعية هذا التصلب في السياسة الأمريكية. وفي حين لا يزال يتعين علينا أن نرى الاتجاه الذي ستتخذه إدارة ترامب في هذا الصدد، فإن المسرح مهيأ لمزيد من الإجراءات العقابية إذا اختارت الإدارة الجديدة القيام بذلك.

معضلة القاهرة:

    إن القاهرة، التي اتخذت نهجًا حذرًا لتجنب الانجرار إلى الحرب، تقدم الدعم اللوجستي للجيش السوداني. ولكن مع هذه الاستراتيجية، تجد مصر نفسها عالقة بين بين خيارين احلاهما مرٌ، إن استمرار الحرب يؤدي إلى تفاقم الكارثة الإنسانية في الجنوب. وفي الوقت نفسه، يشكل سقوط السودان في أيدي الميليشيات القبلية الجامحة المدعومة من القوى المعادية تهديدًا خطيرًا لمصر على جميع المستويات وسوف يؤدي إلى تضخيم التحديات الإقليمية التي تواجهها مصر. وفي الوقت نفسه، ظهرت داخل الجيش السوداني شقوق في تحالفه مع الفصائل الإسلامية، وهو ما يتضح في الصراعات الكلامية الأخيرة بين قادة الإخوان المسلمين وبرهان.

      في هذا السياق، يتعين على القاهرة اتخاذ خطوات استراتيجية لدعم الجيش السوداني وضمان توقف الدعم الإقليمي لقوات الدعم السريع، بالإضافة إلى التنسيق مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية لفرض عقوبات صارمة على الميليشيات المسلحة بهدف إنهاء الصراع.

     وتستطيع مصر أن تعزز تعاونها مع الدول المجاورة ــ مثل المملكة العربية السعودية ــ لتنسيق الجهود الإقليمية الرامية إلى تحقيق الاستقرار في السودان، وإن كانت هذه الجهود سوف تنطوي بلا شك على تعقيدات خاصة بها. وفي حال انتهاء الحرب، تستطيع مصر أن تلعب دورًا رئيسيًا في إعادة بناء السودان وضمان استقرار مؤسساته السياسية والأمنية.

    وفي حين تجد مصر نفسها أمام خيارات صعبة في التعامل مع الأزمة السودانية، ورغم النهج الحذر الذي تبنته حتى الآن، فإن التدخل قد يكون ضروريًا لحماية المصالح المصرية والإقليمية. فتأمين استقرار السودان ليس ضرورة إنسانية فحسب، بل إنه أيضًا عامل استراتيجي للحفاظ على أمن مصر وأمن جنوب البحر الأحمر في ظل تعقيدات إقليمية ودولية متزايدة.

نقلاً عن منتدى فكرة، بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى:

المقال الأصلي: https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/reconsidering-cairos-approach-sudanese-civil-war

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى