أثر قرارات ولاية ترامب الثانية على مستقبل منظمة الصحة العالمية

إعداد: سعاد سمير منازع – نور رمضان عبد العظيم – هاجر أحمد حلمى – باحثات متدربات ببرنامج التنمية المستدامة والطاقة.
مراجعة: د.مي أحمد – مسئول برنامج التنمية المستدامة والطاقة.
مقدمة
تُعد منظمة الصحة العالمية إحدى أهم الوكالات التابعة للأمم المتحدة، حيث تلعب دورًا محوريًا في تعزيز الصحة العامة عالميًا ومكافحة الأوبئة وتطوير النظم الصحية. منذ تأسيسها عام 1948، قادت المنظمة العديد من المبادرات الصحية الدولية، مثل حملات التطعيم ضد الأمراض المعدية، والاستجابة للطوارئ الصحية، ودعم الدول في تطوير سياساتها الصحية، ومع ذلك فان دور المنظمة يعتمد بشكل كبير على التمويل الذي تحصل عليه من الدول الأعضاء، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التي تُعد أحد أكبر المساهمين في ميزانيتها.
لطالما قدمت الولايات المتحدة دعمًا ماليًا كبيرًا لمنظمة الصحة العالمية، حيث شكلت مساهمتها حوالي 18% من ميزانية المنظمة للفترة 2024-2025، ما يعادل مئات الملايين من الدولارات سنويًا. يغطي هذا التمويل العديد من البرامج الحيوية، مثل مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية (HIV) والملاريا، ودعم الاستجابة للأزمات الصحية الطارئة، وبذلك، فإن أي قرار أمريكي يؤثر على حجم هذا التمويل سينعكس مباشرةً على قدرة المنظمة في تنفيذ مهامها الأساسية.
في هذا السياق، جاء قرار الإدارة الأمريكية بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية ليُثير مخاوف جدية حول مستقبل الصحة العالمية. فمن المتوقع أن يؤدي هذا القرار إلى تقليص كبير في ميزانية المنظمة، مما قد يُضعف قدرتها على مواجهة الأمراض المعدية مثل شلل الأطفال وفيروس نقص المناعة البشرية، إضافةً إلى تقليل استجابتها للأزمات الصحية الطارئة، كما حدث خلال جائحة كورونا، إلى جانب ذلك، فإن انسحاب الولايات المتحدة قد يترك فراغًا في القيادة الصحية العالمية، مما قد يمنح دولًا أخرى، مثل الصين، فرصة لتعزيز نفوذها داخل المنظمة وإعادة توجيه سياساتها بما يخدم مصالحها.
وفي ظل هذه التحديات، يكتسب الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة، الذي يهدف إلى ضمان حياة صحية وتعزيز الرفاهية للجميع في جميع الأعمار، أهمية متزايدة. يُعد هذا الهدف تطورًا عن الأهداف الإنمائية للألفية التي ركزت على قضايا صحية محددة مثل وفيات الأطفال والأمهات والأمراض المعدية. ومع تبني أجندة 2030، توسع نطاق الهدف ليشمل التغطية الصحية الشاملة، والتصدي للأمراض غير المعدية، وتحسين الصحة النفسية، وتقليل الوفيات الناتجة عن الحوادث. ورغم التقدم الملحوظ، مثل زيادة معدلات التطعيم وتحسين سبل العلاج، لا تزال هناك تحديات بارزة، أبرزها تأثير جائحة كوفيد-19 على الأنظمة الصحية، وعدم المساواة في الوصول إلى الخدمات الطبية، وارتفاع الأمراض المزمنة بسبب أنماط الحياة غير الصحية.[1]
إلا أن تحقيق هذا الهدف سيصبح أكثر صعوبة في ظل انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، حيث سيؤدي ذلك إلى تقليص التمويل المخصص للمبادرات الصحية العالمية، مما قد يُضعف الجهود المبذولة لتوسيع التغطية الصحية الشاملة، وتحسين الخدمات الطبية، وتعزيز قدرة الدول الفقيرة على مواجهة الأوبئة والأمراض المزمنة. بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب الولايات المتحدة عن المنظمة قد يُقلل من فاعلية التعاون الدولي، مما قد يُعيق تنفيذ استراتيجيات الصحة العالمية التي تهدف إلى تحسين جودة الحياة وضمان الصحة للجميع. وبالتالي، فإن هذا الانسحاب لا يهدد فقط استقرار المنظمة، بل قد يكون له انعكاسات سلبية على تحقيق التنمية المستدامة على مستوى العالم.
أولاً: الخلفية التاريخية لدور الولايات المتحدة في منظمة الصحة العالمية
تُعد الولايات المتحدة أحد أهم الفاعلين في منظمة الصحة العالمية منذ تأسيسها عام 1948، حيث لعبت دورًا أساسيًا في تشكيل سياسات المنظمة ودعمها ماليًا وتقنيًا، انطلاقًا من رؤيتها بأن الصحة العامة قضية عالمية تتطلب تعاونًا دوليًا. وقد ساهمت الولايات المتحدة في تعزيز قدرات المنظمة على مكافحة الأمراض وتحسين النظم الصحية في جميع أنحاء العالم.
علاوة على ذلك، كانت الولايات المتحدة أكبر ممول لمنظمة الصحة العالمية، حيث قدمت حوالي 18% من ميزانيتها للفترة 2024-2025. هذا التمويل الضخم دعم العديد من البرامج الصحية، خاصةً في مكافحة الأمراض المعدية مثل فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، والملاريا، والسل. ومن أبرز المبادرات الأمريكية في هذا السياق برنامج “PEPFAR” (خطة الرئيس الطارئة لمكافحة الإيدز)، الذي أُطلق في عام 2003، وساهم في إنقاذ الملايين من الأرواح من خلال توفير الأدوية والعلاجات والرعاية الصحية للمصابين بالفيروس في البلدان الأكثر تضررًا.[2]
إضافةً إلى ذلك، كانت الولايات المتحدة من أكبر المساهمين في الجهود العالمية للقضاء على شلل الأطفال، حيث قدمت الدعم المالي والتقني لحملات التطعيم التي تستهدف الأطفال في الدول النامية. هذه الجهود أدت إلى انخفاض كبير في حالات الإصابة بالمرض، مما قرّب العالم من تحقيق هدف القضاء التام على شلل الأطفال.
كما لعبت الولايات المتحدة دورًا حيويًا في استجابة منظمة الصحة العالمية للأزمات الصحية الكبرى ،خلال تفشي فيروس إيبولا في غرب إفريقيا عام 2014. فقد قدمت الولايات المتحدة موارد مالية ضخمة، بالإضافة إلى إرسال فرق طبية وخبراء لدعم عمليات الاستجابة والتعامل مع تفشي المرض، هذا النوع من المساهمات عزز من قدرة منظمة الصحة العالمية على مواجهة الأزمات الصحية العالمية بشكل فعال.[3]
إلى جانب الاستجابة للأوبئة، قدمت الولايات المتحدة دعمًا كبيرًا لتعزيز النظم الصحية في الدول النامية، من خلال تمويل مبادرات تهدف إلى تحسين الرعاية الصحية الأولية، وتعزيز قدرات المختبرات الطبية، وتوفير التدريب اللازم للعاملين في القطاع الصحي، هذه الجهود ساعدت في بناء أنظمة صحية أكثر مرونة، قادرة على التعامل مع الأوبئة والطوارئ الصحية.
في الختام، يمثل دور الولايات المتحدة في منظمة الصحة العالمية نموذجًا للتعاون الدولي في مجال الصحة العامة. فمن خلال مساهماتها المالية والتقنية، دعمت الولايات المتحدة جهود المنظمة في مكافحة الأمراض، وتحسين البنية التحتية الصحية، وتعزيز قدراتها في مواجهة الأزمات الصحية العالمية، مما ساهم في تحسين الصحة العامة على مستوى العالم.
ثانيًا: السياق العام للقرارات الأمريكية الجديدة ودوافع انسحابها من المنظمة
1-أبرز القرارات الأمريكية الجديدة
في أعقاب عودة “دونالد ترامب”، إلى البيت الأبيض، شرع في إصدار مجموعة من القرارات والأوامر التنفيذية التي تهدف إلى إلغاء وتجميد التشريعات المعمول بها في الإدارة السابقة، وقد أعلن ترامب خلال ثلاثة خطابات ألقاها في يوم تنصيبه في 20 يناير 2025، عن التزامه باتخاذ سلسلة من الإجراءات المحلية والدولية لاستعادة ما اسماه “العصر الذهبي لأمريكا”، ومن ابرز هذه القرارات:
أ-تجميد المساعدات الدولية الأمريكية: فقدأصدر الرئيس الأمريكي قرارًا بتعليق جميع برامج المساعدة الخارجية لمدة ثلاثة أشهر، مع استثناء المساعدات الغذائية الطارئة والمساعدات العسكرية المقدمة لكل من إسرائيل ومصر.
ب-الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ: في 21 يناير 2025، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ بعد يوم واحد من تنصيبه لولاية رئاسية ثانية، جاء هذا القرار بعد انسحاب سابق في عام 2017، حيث اعتبر ترامب أن الاتفاقية تفرض أعباءً اقتصادية على الولايات المتحدة، وفي 28 يناير 2025، أكدت الولايات المتحدة للأمم المتحدة أنها ستنسحب رسميًا في 27 يناير 2026، حيث يعكس هذا القرار استمرار النهج الذي اتبعه ترامب خلال فترة رئاسته الأولى، وذلك يعود إلى اعتبار ان الاتفاقية غير متوازنة لصالح الدول الأخرى، وبالتالي، يثير هذا الانسحاب تساؤلات حول دور الولايات المتحدة في جهود مكافحة تغير المناخ، مما قد يؤدي إلى ردود فعل دولية قوية نظرًا لأهمية اتفاق باريس في التعاون العالمي في هذا مجال العمل المناخى وتحقيق الهدف الثالث عشر من اهداف التنمية المستدامة.[4]
ج-إعلان حالة طوارئ في مجال الطاقة: فقد أعلن ترامب حالة طوارئ وطنية في قطاع الطاقة لتعزيز إنتاج النفط والغاز في ألاسكا وإلغاء القيود المفروضة على التنقيب.
د- إلغاء سياسات التنوع والشمول (DEI): أصدر ترامب أمرًا تنفيذيًا بإلغاء جميع برامج ومبادرات التنوع والإنصاف والشمول (DEI) في وزارتي الدفاع والأمن الداخلي، معتبرًا أنها تعتمد على التفضيلات العرقية وتتناقض مع مبدأ الكفاءة، مما يؤدي إلى تقويض معايير التوظيف العادلة. ووفقًا لهذا القرار، يُحظر الترويج لأي أفكار تصف الوثائق التأسيسية للولايات المتحدة بأنها عنصرية أو منحازة جنسيًا، حيث يرى ترامب أن مثل هذه السياسات تتعارض مع القيم الدستورية الأمريكية وتساهم في تعزيز الانقسامات داخل المؤسسات الحكومية.
ه- إلغاء حق الجنسية بالولادة: وقّع ترامب على أمر تنفيذي ينهي حق الحصول على الجنسية الأميركية بالولادة من مهاجرين غير قانونيين، وهو حق يضمنه الدستور، وأكدته المحكمة العليا منذ أكثر من 125 عاما.[5]
و- الانسحاب من منظمة الصحة العالمية: أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، عن نية الولايات المتحدة الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، وذلك بعد توقيعه أمرًا تنفيذيًا بهذا الشأن في 21 يناير الجاري. وتُشكل هذه الخطوة، في حال تنفيذها، تحديًا كبيرًا لأعمال المنظمة الأممية، خاصةً في ظل الأهمية المتزايدة لدورها بعد جائحة كورونا ” كوفيد -19″، ويأتي هذا القرار في وقت يحتاج فيه العالم إلى تعزيز التعاون الدولي تحت مظلة المنظمة، للحد من تكرار أزمات صحية مماثلة، إضافةً إلى دعم استمرارية برامجها المختلفة، التي تستهدف مناطق جغرافية متعددة، بما في ذلك المجتمعات الأكثر فقرًا.لذلك، يُعد هذا القرار من بين القضايا المهمة التي تستوجب الدراسة والتحليل، نظرًا لتأثيراته المحتملة على الصحة العالمية والتعاون الدولي. ويثير الانسحاب تساؤلات حول دوافع الولايات المتحدة لاتخاذ هذه الخطوة.
٢.دوافع انسحاب الوليات المتحده من منظمة الصحة العالمية:
هناك العديد من الدوافع للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، إلى اتخاذ قرار انسحاب بلاده من منظمة الصحة العالمية، حيث شكّلت هذه الدوافع مجتمعة مبررًا قويًا لهذه الخطوة. وتنوعت هذه الأسباب بين اعتبارات سياسية واقتصادية، ويمكن توضيحها على النحو التالي:[6]
أ-سوء إدارة المنظمة لجائحة كورونا ” كوفيد – 19″ وتأثيرها السياسي: فقد أسند” ترامب”، قرار الانسحاب من المنظمة إلى عدة أسباب من ضمنها، سوء تعامل المنظمة مع الجائحة وتأثرها بالضغوط السياسية من بعض الدول الأعضاء. وأشار ترامب إلى أن المنظمة أخفقت في اتخاذ قرارات حاسمة بشأن الجائحة نتيجة التأثير السياسي، حيث اتُهمت بالتحيز لصالح بعض الدول، مثل الصين، من خلال التأخر في إعلان حالة الطوارئ الصحية العالمية. واعتبر أن هذه التدخلات السياسية أثرت على مصداقية المنظمة وفعاليتها، مما دفع إدارته إلى إنهاء التمويل الأمريكي لها والانسحاب رسميًا.
ب-الاعتراض على التمويل الأمريكي الكبير:أشار ترامب إلى أن الولايات المتحدة تدفع مبالغ كبيرة للمنظمة مقارنة بدول أخرى، مثل الصين، التي تدفع أقل بكثير.
ج-سياسة ” أمريكا أولاً “: تأتي هذه الخطوة في إطار سياسة “أمريكا أولاً” التي يتبعها ترامب، حيث يسعى إلى تقليل الالتزامات المالية والسياسية للولايات المتحدة تجاه المنظمات الدولية. حيث تتراوح مساهمات الولايات المتحدة سنويًا بين 400 و500 مليون دولار، تشمل تمويلًا أساسيًا مخصصًا لدعم العمليات العامة للمنظمة، إضافة إلى مساهمات موجهة لمبادرات محددة، مثل مكافحة شلل الأطفال، الملاريا، والأمراض المعدية الأخرى.[7]
د-التوترات السياسية مع الصين: لم يكن قرار ترامب بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية موجهًا ضد المنظمة بحد ذاتها، بل كان جزءًا من استراتيجية أوسع لمواجهة النفوذ الصيني، الذي اعتبره خصمًا اقتصاديًا رئيسيًا للولايات المتحدة. منذ حملته الانتخابية، استخدم ترامب خطابًا حادًا ضد بكين، محاولًا تقديم نفسه كرئيس يتصدى لتهديداتها. وبالتالي، فإن انتقاداته للمنظمة كانت تعبيرًا عن رغبته في محاربة التأثير الصيني، والذي رأى أنه يمتد إلى المنظمات الدولية. وفي هذا السياق، لفت ترامب إلى أن حصة بلاده في تمويل منظمة الصحة العالمية تتراوح بين 400 و500 مليون دولار في السنة، مقابل حوالي 40 مليون دولار “وحتى أقل” للصين. هذا التفاوت الكبير في المساهمات المالية يعكس الاختلاف في الالتزامات الدولية بين البلدين.[8]
ثالثًا: أثر القرارات الأمريكية الجديدة على منظمة الصحة العالمية.
1– الفجوة المالية الناتجة عن القرارات الأمريكية الجديدة: حيث إن غياب التمويل الأمريكي عن منظمة الصحة العالمية لا يعني فقدان جزء يمكن تعويضه من باقي الميزانية، بل إن غياب هذا التمويل يعني ببساطة فجوة ضخمة تتسع يومًا بعد يوم، لا تقتصر فقط على توقف بعض الأنشطة، بل قد تؤدي إلى تجميد أو تقليص العديد من المشاريع الصحية الأساسية. الأمر الذي يضع الأمن الصحي العالمي في خطر، ويهدد بتقليص قدرة المنظمة على مواجهة التحديات الصحية المستقبلية، سواء كانت جائحات جديدة أو الأمراض المستعصية التي لا تعرف الحدود. فالولايات المتحدة كانت تمثل أكبر داعم مالي للمنظمة، حيث كانت تقدم حوالي 18% من إجمالي التمويل الطوعي للمنظمة،كما تؤمن الولايات المتحدة الأمريكية حوالي ربع إجمالي التمويل، متفوقة بذلك على الصين واليابان وألمانيا. إضافة إلى ذلك، يمكن للدول تقديم تبرعات طوعية، وهو ما تقوم به الولايات المتحدة. ففي الدورة الحالية، تبرعت الولايات المتحدة بما يقارب مليار دولار لدعم ميزانية المنظمة. هذا الرقم لا يعكس مجرد جزء من ميزانية المنظمة، بل يُعد الركيزة الأساسية التي تعتمد عليها العديد من البرامج الحيوية مثل حملات التطعيم، مكافحة الأمراض المعدية، والاستجابة للأزمات الصحية الكبرى.[9]
حيث وضحت منظمة الصحة العالمية مصادر تمويلها الأساسية وهى
أ-الاشتراكات المقدّرة: وهي مساهمات مالية تُحدد كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة عضو، ويتم اعتمادها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة. توافق جمعية الصحة العالمية على هذه الاشتراكات كل عامين، لكنها تغطي أقل من 20% من الميزانية الإجمالية للمنظمة.
ب- المساهمات الطوعية: وتشكل النسبة الأكبر من تمويل المنظمة، حيث تأتي من مصادر متعددة، تشمل الدول الأعضاء، منظمات الأمم المتحدة الأخرى، المنظمات الحكومية الدولية، المؤسسات الخيرية، القطاع الخاص، وجهات مانحة أخرى، ويعتمد تمويل منظمة الصحة العالمية بشكل أساسي على هذه المساهمات الطوعية، مما يجعلها عرضة للتغيرات السياسية والاقتصادية التي قد تؤثر على استدامة برامجها الصحية العالمية.[10]
2-تأثير القرارات الأمريكية على برامج الصحة العالمية.
يصاحب القرارات الأمريكية الجديدة بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية مجموعة واسعة من التهديدات على برامج الصحة العالمية وتظهر فى التالى : [11]
أ-التأثير على برامج مكافحة الأمراض: فقد كانت الولايات المتحدة تدعم بشكل كبير برامج مكافحة الأمراض المعدية مثل السل، الإيدز، والملاريا في الدول النامية. مع انسحابها، يُتوقع أن تتأثر هذه البرامج سلبًا بسبب نقص التمويل، مما قد يؤدي إلى زيادة انتشار هذه الأمراض وصعوبة السيطرة عليها.
ب- ضعف الاستجابة للأزمات الصحية: حيث إن غياب الدعم المالي من قبل الولايات المتحدة قد يعيق قدرة منظمة الصحة العالمية على التنسيق العالمي لمواجهة الكوارث الصحية، مثل الأوبئة وتفشي الأمراض. هذا الضعف في الاستجابة يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الأزمات الصحية وزيادة انتشار الأوبئة، الأمر الذى يتسبب فى قدرة منظمة الصحة العالمية على تقديم الدعم والاستجابة للأزمات الصحية المنتشرة ومواجهة الأوبئة التى تجتاح العالم فجأة ويلزمها تمويل ضخم للقدرة مواجهتها وكذلك تؤثر تلك القرارات على استدامة منظمة الصحة العالمية نظراً لخسارة أكبر داعم مالي للمنظمة.
رابعًا: التأثيرات العالمية وردود الفعل الدولية تجاة القرارات:
لقد أثار قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية ردود فعل دوليه واسعة معبرة بذلك عن القلق الشديد من التأثيرات المحتملة على الصحة العالمية نوضحها من خلال النقاط التالية:
1-موقف منظمة الصحة العالمية وإجراءاتها لمواجهة الأزمة: أعربت منظمة الصحة العالمية عن أسفها الشديد إزاء إعلان الولايات المتحدة الأمريكية نيتها الانسحاب من عضوية المنظمة. كما أكدت المنظمة أهمية الدور الذي تلعبه في حماية صحة وأمن شعوب العالم، بما في ذلك المواطنين الأمريكيين، من خلال معالجة الأسباب الجذرية للأمراض، وبناء أنظمة صحية قوية، ورصد الأوبئة، والوقاية منها، والاستجابة لحالات الطوارئ الصحية، بما يشمل تفشي الأمراض في أماكن خطرة قد يصعب الوصول إليها.
كما أعربت المنظمة عن أملها في أن تعيد الولايات المتحدة النظر في قرارها، مع التأكيد على أهمية الحفاظ على الشراكة بين الطرفين لما فيه مصلحة صحة ورفاهية ملايين البشر حول العالم. وقد دعت إلى إيجاد حوار بنّاء للحفاظ على التعاون الوثيق بين الطرفين.[12]
علاوة على ذلك، اعترفت منظمة الصحة العالمية بالتأثيرات السلبية لقرار انسحاب الولايات المتحدة على وضعها المالي، حيث أقرّ مديرها العام “تيدروس أدهانوم غيبريسوس”، بأن هذا الإعلان أدى إلى تفاقم الأزمة المالية للمنظمة، مما أثار مخاوف وقلقًا بين الموظفين. وفي إطار مواجهة هذا التحدي، أعلنت المنظمة عن حزمة من التدابير التقشفية التي تهدف إلى خفض النفقات وزيادة الكفاءة التشغيلية، حيث أكّد غيبريسوس أن المنظمة ستعيد النظر في الأنشطة ذات الأولوية من حيث التمويل، بالإضافة إلى تجميد التوظيف إلا في المجالات الأكثر ضرورة. وقررت منظمة الصحة العالمية مراجعة استراتجيتها واتخاذ جملة من التدابير لتوفير النفقات من أجل سد الثغرة المالية التي سيخلفها الانسحاب الأمريكي، مع تذكير للرئيس ترامب بدورها الأساسي في “حماية” بلده من التهديدات الصحية. وتشمل هذه التدابير على سبيل التعداد خفض النفقات المرتبطة بالسفر وعقد الاجتماعات عبر الإنترنت حصرا والاكتفاء بالبعثات التقنية “الأكثر إلحاحًا”، والحد من تجديد التجهيزات الإلكترونية وتعليق أعمال الترميم. وتنوي المنظمة أيضًا مواصلة استراتيجيتها لتنويع مصادر التمويل.[13]
2-تأثير القرار على الدول النامية التى تعتمد دعم المنظمة:
سيؤدى تحدى التمويل الى اضعاف قدرة منظمة الصحة العالمية على مواصلة عملها بالقدر الذي تقوم به حاليا، وهذا ينطبق بشكل خاص على البلدان الأكثر فقرًا وحرمانًا. وفي حين أن التأثيرات المحتملة لهذا القرار سوف يشعر بها أولئك الذين يعيشون في البلدان الأكثر ضعفًا وعرضة للخطر.
إن حماية العالم من تفشي الأمراض المعدية، هى مسئولية دولية، تشمل ضمان حصول البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل على الموارد اللازمة لمنع الحالات المبكرة والتفشي المحلي وتحديدها والاستجابة لها. وهذا بدوره يساعد في حماية الصحة والأمن البيولوجي لكافة دول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة.[14]
كذلك من التأثيرات المحتملة على الدول النامية هى تهديد مشاريع الصحة الأساسية مثل توفير المياه النظيفة وتحسين خدمات الصرف الصحي لذلك فمع فقدان تمويل الولايات المتحدة الأمريكية وضعف قدرات المنظمة على توفير تلك الخدمات للدول النامية متوقع زيادة العبء المالي على الدول لمواجهة التحديات المتزايدة، مما يشكل عبئًا إضافيًا على ميزانياتها المحدودة، ومن أمثلة تلك الدول:
أ- أفغانستان وباكستان: تُعتبر هاتان الدولتان من بين الدول القليلة التي لا يزال فيها مرض شلل الأطفال متوطنًا. كانت الولايات المتحدة تدعم بشكل كبير جهود منظمة الصحة العالمية للقضاء على هذا المرض في هذه المناطق. مع تقليص التمويل، قد تتأثر حملات التطعيم سلبًا، مما يعيق تحقيق هدف القضاء على شلل الأطفال.[15]
ب-دول جنوب شرق آسيا: تعتمد هذه الدول على دعم منظمة الصحة العالمية في مجالات مثل التطعيمات الأساسية، مكافحة الأوبئة، وتعزيز الخدمات الصحية في المناطق النائية. مع نقص التمويل، قد تتعرض هذه البرامج للخطر، مما يؤثر سلبًا على الصحة العامة في هذه الدول.[16]
3– موقف الدول الكبرى من القرارات:
لا تقتصر تأثيرات القرارات الأمريكية الجديدة بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية على الدول النامية فحسب، بل تمتد لتشمل الدول الكبرى أيضًا. فقد يؤدي هذا القرار إلى تقليص التعاون الدولي في مجال الصحة العامة، مما يؤثر على قدرة الدول الكبرى في مواجهة التحديات الصحية العابرة للحدود. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الخطوة قد تضعف قدرة المنظمة على تقديم الدعم الفني والمالي للدول الأعضاء، بما في ذلك الدول الكبرى، في مجالات حيوية مثل البحث العلمي، تطوير اللقاحات، والاستجابة للأزمات الصحية الكبرى. فبالرغم من أن الدول الكبرى قد تتمتع بموارد صحية قوية، إلا أن التعاون الدولي مع منظمة الصحة العالمية كان عنصرًا أساسيًا في تعزيز جهودها الصحية في مواجهة الأزمات العالمية.ومن الدول الكبري التى كان لها رد فعل واضح على تلك القرارات:
أ-الصين: تعهدت الصين بدعم منظمة الصحة العالمية، حيث رأت الصين في انسحاب الولايات المتحدة فرصة لتعزيز نفوذها داخل منظمة الصحة العالمية. فقد أكدت دعمها المستمر للمنظمة، مشيرة إلى استعدادها لزيادة مساهماتها المالية والمشاركة بفعالية أكبر في صياغة سياسات الصحة العالمية. هذا الموقف يعزز من دور الصين كلاعب رئيسي في الساحة الصحية الدولية.[17]
ب-ألمانيا: أعربت ألمانيا عن أسفها لقرار الولايات المتحدة، معتبرة إياه خطوة تضعف الجهود الدولية في مكافحة الأزمات الصحية. وأكدت التزامها بدعم منظمة الصحة العالمية، مشددة على أهمية التعاون الدولي في مواجهة التحديات الصحية. كما أعلنت عن نيتها زيادة مساهماتها المالية لتعويض النقص المحتمل في تمويل المنظمة. [18]
بالإضافة إلى العديد من الدول الكبري التى أكدت على دعمها لمنظمة الصحة العالمية وانتقاد تخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن دورها فى منظمة الصحة العالمية مثل ( فرنسا واليابان والمملكة المتحدة) الأمر الذي يؤكد على التأثير البالغ الذى يلحق كل دول العالم سواءً كانت دولة كبري أو دولة نامية.
خامسًا:التحديات و السيناريوهات المستقبلية:
١.التحديات:
في ظل التحولات العميقة التي تفرضها السياسات الأمريكية الجديدة، تواجه منظمة الصحة العالمية تحديات متعددة قد تعيد تشكيل مسارها المستقبلي على المستويين التشغيلي والمالي. يشكل انسحاب الولايات المتحدة، باعتبارها أحد أكبر الممولين التاريخيين للمنظمة، نقطة تحول فارقة تفرض عليها إعادة تقييم استراتيجياتها التمويلية. فمنذ عقود، اعتمدت المنظمة بشكل كبير على المساهمات الأمريكية، مما يعني أن هذا الانسحاب يخلق فجوة مالية تستوجب البحث عن مصادر تمويل بديلة، سواء من خلال زيادة المساهمات الإلزامية للدول الأعضاء أو عبر تعزيز الشراكات مع القطاع الخاص والمؤسسات الخيرية. غير أن هذه الخيارات تثير إشكاليات تتعلق باستقلالية المنظمة،[19] إذ إن الاعتماد على ممولين جدد قد يؤدي إلى تغيرات في موازين القوى داخلها، ويفرض شروطًا سياسية واقتصادية قد تؤثر علي أولوياتها. [20]
ا- التحديات المالية:
تساهم الولايات المتحدة كانت بحوالي 18% من إجمالي تمويل منظمة الصحة العالمية. بعد قرار الانسحاب، اقترحت المنظمة خفض في ميزانيتها بمقدار 400 مليون دولار للتكيف مع الفجوة التمويلية الناتجة.[21] من جانب آخر، تناقش الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية خفض الميزانية بمقدار 400 مليون دولار نتيجة لقرار الانسحاب الأمريكي، مما يبرز التحديات المالية التي تواجهها المنظمة في المرحلة المقبلة.[22]
ب – التحديات الهيكلية:
تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة هيكلة المنظمة وتحقيق كفاءة أعلى في إدارة مواردها. فتراجع التمويل يفرض على القائمين عليها إعادة النظر في أولويات المشروعات والبرامج، مع محاولة تقليل الهدر وتحسين آليات اتخاذ القرار، سواء من داخل المنظمة نفسها أو من الدول الأعضاء التي اعتادت على نمط معين من الدعم والتوجيه. إضافةً إلى ذلك، فإن هذه الإصلاحات قد تتطلب وقتًا طويلاً وجهودًا منسقة لضمان عدم التأثير سلبًا على قدرة المنظمة في الاستجابة السريعة للأزمات الصحية الطارئة.[23]
ج – تحديات على المستوى الجيوسياسي:
يعيد انسحاب الولايات المتحدة تشكيل التوازنات داخل المنظمة، فتح المجال أمام قوى دولية أخرى، مثل الصين والاتحاد الأوروبي، لتعزيز نفوذها. هذا التحول قد يؤدي إلى تغييرات في صنع القرار داخل المنظمة، مما يفرض تحديًا دبلوماسيًا للحفاظ على حياديتها وضمان توازن المصالح بين الدول الأعضاء. وقد يتطلب ذلك إعادة صياغة استراتيجيات التعامل مع الضغوط السياسية، خاصةً أن المنظمة تعمل في بيئة دولية تتسم بتعقيد متزايد في العلاقات بين القوى الكبرى.[24]
د – تفاقم الازمات الصحية فى العالم:
يشكل النقص في الموارد المالية تحديًا حقيقيًا قد يؤثر على قدرة المنظمة على تقديم الدعم اللازم في مواجهة الأوبئة والكوارث الصحية. إن أي تأخير في توفير التمويل والموارد قد يؤدي إلى ضعف في التنسيق الدولي، مما يحد من فعالية التدخلات الصحية ويعرقل الجهود المبذولة لمكافحة الأمراض. كما أن تراجع الدعم المالي قد يؤثر على تنفيذ برامج الوقاية والرصد المبكر، وهو ما قد يشكل تهديدًا مباشرًا للصحة العامة العالمية.[25] [26]
وبالتوازي مع هذه التحديات، تواجه المنظمة إشكاليات تتعلق بالتفاوض مع ممولين جدد لضمان استدامة مواردها. إن الاعتماد على مصادر تمويل غير مستقرة يفرض على المنظمة الدخول في مفاوضات معقدة قد تؤثر على استقلاليتها، خاصة إذا ارتبطت هذه التمويلات بشروط سياسية أو اقتصادية محددة. كما أن هذه العملية قد تستغرق وقتًا طويلاً، مما قد يؤخر تنفيذ البرامج الصحية الأساسية ويزيد من تعقيد الوضع المؤسسي للمنظمة.[27]
في سياق متصل، على الرغم من انسحاب الولايات المتحدة، يبقى احتمال عودة الدعم الأمريكي قائمًا في المستقبل، لا سيما في حال حدوث تغييرات سياسية داخل الإدارة الأمريكية أو نتيجة لضغوط دولية متزايدة لمواجهة الأزمات الصحية. ومع ذلك، فإن عودة التمويل الأمريكي لن تكون عملية سلسة، إذ ستتطلب إعادة تفاوض حول الأولويات والشروط، مما قد يؤدي إلى استمرار الجدل حول استقرار المنظمة وقدرتها على العمل بفعالية في بيئة سياسية متغيرة.[28]
أخيرًا، فإن هذه التحديات لا يمكن فصلها عن السياق العالمي الأوسع، حيث تؤثر التحولات الجيوسياسية والتغيرات في موازين القوى بين الدول بشكل مباشر على قدرة المنظمة على التنسيق والتعاون الدولي. فمع تزايد الأزمات الصحية العابرة للحدود والتحديات المرتبطة بالتغير المناخي، يصبح من الضروري تعزيز الجهود الدولية لضمان استدامة آليات التمويل والتدخل الصحي الفعال. في هذا السياق، تبرز أهمية تطوير استراتيجيات مرنة تمكن المنظمة من التكيف مع الواقع الجديد وضمان استمرار دورها في تعزيز الصحة العالمية.[29]
٢.السيناريوهات المستقبلية:
في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها النظام الصحي العالمي بعد انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، تظهر ثلاثة سيناريوهات مستقبلية بارزة تعكس مسارات محتملة للمنظمة:
أ-السيناريو المتشائم: ضعف المنظمة وتراجع برامجها الرئيسية: فقد يؤدي انسحاب الولايات المتحدة إلى فجوة تمويلية كبيرة، حيث تُعد الولايات المتحدة أكبر داعم مالي لمنظمة الصحة العالمية، بمساهمتها التي تشكل حوالي 18% من إجمالي تمويل المنظمة. في ميزانية 2024 و2025، بلغت المساهمة الأمريكية حوالي 988 مليون دولار من إجمالي 6.9 مليار دولار. بعد انسحاب الولايات المتحدة، اقترحت منظمة الصحة العالمية خفض ميزانيتها بمقدار 400 مليون دولار، مما يعكس التأثير المباشر لهذا القرار على قدرتها على تنفيذ برامجها الحيوية مثل مكافحة الأوبئة وتنسيق الاستجابة للكوارث. هذا النقص في التمويل قد يفرض على المنظمة اللجوء إلى مصادر بديلة قد تأتي بشروط سياسية واقتصادية تؤثر على استقلاليتها، مما يهدد قدرتها على تقديم استجابة صحية عالمية فعّالة.[30][31]
ب- السيناريو الواقعي: إعادة هيكلة المنظمة وتنويع مصادر التمويل: تسعى منظمة الصحة العالمية للتكيف مع التحديات المالية عبر تنفيذ إصلاحات هيكلية وتنويع مصادر تمويلها. تشمل هذه الجهود زيادة المساهمات الإلزامية من الدول الأعضاء وتعزيز الشراكات مع القطاع الخاص والمؤسسات الخيرية، بالإضافة إلى تقوية التعاون مع الدول النامية التي أصبحت تبرز كلاعب أساسي في المجال الصحي العالمي. تُشير التقارير إلى أن تبني مثل هذه الإصلاحات قد يساهم في تأمين استدامة الموارد المالية رغم فقدان الدعم الأمريكي التقليدي.
ج -السيناريو المتفائل: التحول الرقمي والتكنولوجي لتعزيز الكفاءة التشغيلية: في هذا السيناريو، تسعى المنظمة إلى استغلال التحول الرقمي واعتماد التقنيات الحديثة كأداة لتعويض النقص المالي وتحسين عملياتها. يمكن للذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات أن يساهما في تحسين رصد الأمراض وتنسيق الاستجابة للأزمات الصحية، مما يقلل من التكاليف التشغيلية ويعزز من سرعة اتخاذ القرار. رغم أن هذا التحول يتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية وتدريب الكوادر البشرية، فإن تطوير التكنولوجيا الرقمية يعد خطوة استراتيجية لتعزيز فعالية المنظمة. تدعم هذه الرؤية المعلومات التي تقدمها منظمة الصحة العالمية حول الإمكانيات الكبيرة للتحول الرقمي في القطاع الصحي، حيث يمكن لهذه التقنيات أن تساهم في تحسين القدرة على الاستجابة السريعة للأزمات الصحية العالمية
هذه السيناريوهات الثلاثة تُظهر ملامح مستقبلية محتملة لمنظمة الصحة العالمية؛ حيث يتراوح الواقع بين تدهور القدرة التشغيلية نتيجة للفجوة التمويلية، وبين إمكانية إعادة هيكلة المؤسسة وتأمين تمويل بديل، وصولاً إلى استغلال التحول الرقمي كوسيلة لتعزيز الكفاءة والفعالية في مواجهة الأزمات الصحية العالمية.
الخاتمة والتوصيات:
يعد انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية خطوة هامة لها تداعيات كبيرة على الصحة العالمية. فمنظمة الصحة العالمية تعتبر أحد الركائز الأساسية في التنسيق العالمي لمواجهة الأزمات الصحية، سواء كانت جائحات مثل كوفيد-19 أو تهديدات صحية أخرى على المستوى العالمي. ومع انسحاب أكبر مساهم في تمويل المنظمة، تتعرض الأخيرة إلى تحديات كبيرة على صعيد الموارد المالية، ما قد يؤثر سلبًا على قدرتها في مواجهة الأوبئة المستقبلية وتنفيذ برامجها الحيوية. تتمثل التحديات الرئيسية التي ستواجهها منظمة الصحة العالمية في تجاوز فجوة التمويل، التي قد تؤدي إلى تقليص بعض البرامج الحيوية مثل الحملات الوقائية وبرامج مكافحة الأمراض المعدية، بالإضافة إلى ضرورة إعادة هيكلة المنظمة لضمان استدامة مواردها. وبالطبع، ستؤثر هذه التحديات أيضًا على الدول النامية التي تعتمد بشكل كبير على المنظمة في مواجهة الأزمات الصحية، ما يفاقم من التحديات الاقتصادية والصحية لتلك الدول.أما بالنسبة للسياسات الدولية، فقد نشهد تغيرًا في موازين القوى داخل المنظمة، حيث سيكون من الممكن لدول أخرى مثل الصين والاتحاد الأوروبي زيادة تأثيرها في صنع السياسات الصحية العالمية، ما قد يؤثر في استقلالية المنظمة. هذا التغيير يتطلب إعادة تقييم استراتيجيات التعاون بين الدول الأعضاء لضمان استمرارية الفاعلية في مواجهة الأزمات الصحية المستقبلية.
التوصيات:
- تنويع مصادر التمويل: ينبغي على منظمة الصحة العالمية أن تبذل جهودًا كبيرة لتنويع مصادر تمويلها، حيث لا يمكن الاعتماد على دولة واحدة كالدولة الأمريكية في تمويل المنظمة. يمكن تحقيق ذلك من خلال زيادة المساهمات الطوعية من الدول النامية والدول المتقدمة، وتعزيز التعاون مع القطاع الخاص والمؤسسات الخيرية.
- تعزيز التعاون الدولي: يجب على المنظمة أن تعمل على تقوية التعاون مع المنظمات الدولية الأخرى، والهيئات الصحية الإقليمية، ومنظمات المجتمع المدني. هذا التعاون يساعد في الحفاظ على الجهود الجماعية في مواجهة التحديات الصحية العالمية، مما يضمن عدم تأثير غياب جهة مساهمة كبرى على سير العمليات في المنظمة.
- تعزيز الشفافية والمساءلة: نظرًا للانتقادات السياسية التي تعرضت لها المنظمة في إدارة أزمة كوفيد-19، ينبغي عليها تحسين آليات الشفافية والمساءلة، بما في ذلك معالجة المخاوف بشأن الحوكمة وعمليات اتخاذ القرارات، لاستعادة ثقة المجتمع الدولي.
- تعزيز المبادرات الخاصة بالأمن الصحي: من الضروري أن تركز منظمة الصحة العالمية على البرامج التي تعزز الأمن الصحي، مثل الاستعداد والاستجابة للأزمات، وأنظمة الرصد العالمي للأمراض المعدية. هذه البرامج ضرورية للتخفيف من المخاطر التي قد تطرأ بسبب الأوبئة المستقبلية.
- التفاعل مع قادة الصحة العالمية الجدد: يجب على المنظمة أن تتفاعل بنشاط مع القادة الجدد في مجال الصحة العالمية، مثل الصين، لضمان توافق سياساتها مع السياق الجيوسياسي الأوسع. يمكن أن يشمل ذلك تعزيز الحوار لتحقيق توازن في المصالح المتنافسة والحفاظ على القيادة الصحية العالمية.
من خلال تطبيق هذه الاستراتيجيات، تستطيع منظمة الصحة العالمية مواجهة التحديات الناجمة عن انسحاب الولايات المتحدة، والاستمرار في لعب دور محوري في الحوكمة الصحية العالمية.
[1] الأمم المتحدة، الهدف الثالث: ضمان تمتّع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية في جميع الأعمار، ٢٠٢٥،متاح علي الرابط التالي : https://www.un.org/sustainabledevelopment/ar/health
[2] U.S. Department of State. “PEPFAR: The U.S. President’s Emergency Plan for AIDS Relief.” 2021. Available at: https://www.state.gov/pepfar/.
[3] Centers for Disease Control and Prevention (CDC). (2015). Ebola Response: Available at: HTTPshttps://www.cdc.gov/vhf/ebola/history/2014-2016-outbreak.html
[4] Michelle Nichols, “US to Withdraw from Climate Deal on Jan. 27, 2026, Says UN,” Reuters, January 28, 2025. Available at:: https://www.reuters.com/business/environment/us-withdraw-climate-deal-jan-27-2026-says-un-2025-01-28/.
[5] Miranda Jeyaretnam and Chad de Guzman, “Breaking Down All of Trump’s Day 1 Presidential Actions,” Time, January 20, 2025, available at: https://time.com/7208691/trump-day-one-presidential-actions-executive-orders-memorandum-proclamation-explainer/.
[6] Patrick Wingrove, Jennifer Rigby, and Emma Farge, “Trump Orders US Exit from World Health Organization,” Reuters, January 21, 2025، Available at: https://www.reuters.com/world/us/trump-signs-executive-withdrawing-world-health-organization-2025-01-21/.
[7] مروة صالح، “500 مليون دولار سنويًا.. الولايات المتحدة أكبر ممول لمنظمة الصحة العالمية”، أخبار اليوم، 21 يناير 2025، متاح على الرابط: https://akhbarelyom.com/news/newdetails/4536666/1/500-مليون-دولار-سنويًا-الولايات-المتحدة-أكبر-ممول-للصحة-العالمية.
[8] الغد، “الصين تقدم 30 مليون دولار إضافية لمنظمة الصحة العالمية بعد تعليق التمويل الأميركي”، 13 مايو 2020، متاح على الرابط التالي: https://n9.cl/7dpzu.
[9] “ماثيو وارد أغيوس، “انسحاب أمريكا من منظمة الصحة العالمية سيكون ‘كارثة”، DW العربية، 17 يناير 2025، متاح على الرابط: https://www.dw.com/ar/a-71292589.
¹⁰ منظمة الصحة العالمية، “الميزانية”، 2025، متاح على الرابط:
https://www.who.int/ar/about/accountability/budget.
[11] “الدستور. “تداعيات انسحاب أمريكا من منظمة الصحة العالمية.” الدستور, 2025. متاح على الرابط: https://www.dostor.org/4937247?utm_source.
[12] أخبار اليوم. “تداعيات انسحاب أمريكا من الصحة العالمية.”, 2025. متاح على الرابط: https://m.akhbarelyom.com/news/newdetails/4539563/1/تداعيات-انسحاب-أمريكا-من-الصحة-العالمية-.
[13] France 24 العربية. “منظمة الصحة العالمية في حالة استنفار لبحث سبيل مواجهة تداعيات الانسحاب الأمريكي.” France 24 العربية, 24 يناير 2025. متاح على الرابط: https://n9.cl/2niam.
¹⁴ Time. Trump’s Withdrawal from WHO Could Have Global Consequences. Time، January 24, 2025. Available at: https://time.com/7209265/trump-who-consequences-essay/.
[15]أمل علام، “الصحة العالمية: انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة الصحة له أثر كبير”، اليوم السابع، 29 يناير 2025، متاح على الرابط: https://www.youm7.com/story/2025/1/29/الصحة-العالمية-انسحاب-الولايات-المتحدة-من-المنظمة-الصحة-له-أثر/6864275.
[16] Hincks, Joseph. Trump’s Withdrawal from WHO Could Have Global Consequences. Time، January 24, 2025. Available at: https://time.com/7209265/trump-who-consequences-essay/.
[17] بوابة أخبار اليوم، “بعد انسحاب ترامب.. الصين تتعهد بدعم منظمة الصحة العالمية.” 21 يناير 2025. متاح على الرابط: https://akhbarelyom.com/news/newdetails/4536689/1/بعد-انسحاب-ترامب-الصين-تتعهد-بدعم-منظمة-الصحة-العالمية.
[18] بوابة الشروق .”انعكاسات انسحاب ترامب على منظمة الصحة العالمية.” ، 21 يناير 2025. متاح على الرابط: https://www.shorouknews.com/mobile/news/view.aspx?cdate=21012025&id=e6962af1-3573-4ffe-92c6-44b3e6319447.
[19] CNBC عربية،“منظمة الصحة العالمية تواجه أزمة مالية بسبب ترامب.” 3 فبراير 2025. متاح على الرابط: https://www.cnbcarabia.com/133771/2025/03/02/منظمة-الصحة-العالمية-تواجه-أزمة-مالية-بسبب-ترامب.
[20] عماد السعيدي، “انسحاب أمريكا من منظمة الصحة العالمية.. أزمة تمويل تهدد القطاع الصحي العالمي“، Detafour 6 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://detafour.com/انسحاب-أمريكا-من-منظمة-الصحة-العالمية/.
[21]. Jennifer Rigby, “WHO Proposes Budget Cut After US Exit, Defends Its Work,” Reuters, February 3, 2025, available at: https://www.reuters.com/world/who-proposes-budget-cut-after-us-exit-defends-its-work-2025-02-03/
[22] CNBC عربية، “منظمة الصحة العالمية تواجه أزمة مالية بسبب ترامب.” 3 فبراير 2025. متاح على الرابط: https://www.cnbcarabia.com/133771/2025/03/02/منظمة-الصحة-العالمية-تواجه-أزمة-مالية-بسبب-ترامب.
[23] Matthew M. Kavanagh, “WHO Withdrawal Could Be a Disaster—or an Opportunity,” Foreign Policy, January 23, 2025, available at: https://foreignpolicy.com/2025/01/23/trump-us-who-withdrawal-global-health/.
[24] El País. 2025. “The U.S. Withdrawal from the WHO Weakens Global Health and Opens Space for China to Gain Influence.” January 21, 2025 https://elpais.com/sociedad/2025-01-21/la-salida-de-ee-uu-de-la-oms-debilita-la-salud-global-y-deja-espacio-a-china-para-ganar-influencia.html
[25] CNBC عربية، “منظمة الصحة العالمية تواجه أزمة مالية بسبب ترامب.” 3 فبراير 2025. متاح على الرابط: https://www.cnbcarabia.com/.
[26]Stefano Bertozzi, “U.S. Withdrawal from WHO Could Bring Tragedy at Home and Abroad,” Public Health at Berkeley, January 24, 2025, available at: https://publichealth.berkeley.edu/news-media/opinion/withdrawal-from-who-could-bring-tragedy.
²⁷ Victoria Fan, “How to Heal Health Financing,” Finance & Development (International Monetary Fund) December 2024, available at: https://www.imf.org/ar/Publications/fandd/issues/2024/12/how-to-heal-health-financing-victoria-fan.
[28]Jean Galbraith, “The Legal Problem in Trump’s WHO Order: The US Can’t Withdraw Without Paying Its Dues”, Just Security, January 24, 2025, available at: https://www.justsecurity.org/106748/trump-order-world-health-organization
[29]Alice Park, “What Leaving the WHO Means for the U.S. and the World,” Time, January 21, 2025, available at: https://time.com/7208937/us-world-health-organization-trump-withdrawal/.
[30] Jennifer Rigby, “WHO Proposes Budget Cut After US Exit, Defends Its Work,” Reuters, February 3, 2025, available at: https://www.reuters.com/world/who-proposes-budget-cut-after-us-exit-defends-its-work-2025-02-03
[31] CNBC عربية”منظمة الصحة العالمية تواجه أزمة مالية بسبب ترامب”، 3 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://www.cnbcarabia.com/133771/2025/03/02/منظمة-الصحة-العالمية-تواجه-أزمة-مالية-بسبب-ترامب.