تقدير موقف

ملف السجون والمخيمات في شمال شرق سوريا: بين التعقيد الأمني والتوظيف السياسي

إعداد: ياسمين محمود حامد البوني – باحثة مشاركة.         

      منذ سقوط النظام السوري، أصبحت البلاد ساحةً للصراعات الإقليمية والدولية، مما أدى إلى تفاقم الأزمات الأمنية والإنسانية، ومن أخطر هذه الأزمات ملف السجون والمخيمات التي تحتجز عناصر تنظيم داعش في شمال شرق سوريا، حيث تدير قوات سوريا الديمقراطية (قسد) هذه المرافق بدعم من الولايات المتحدة، لكنها تواجه تحديات أمنية وعسكرية كبرى، لاسيما في ظل التصعيد العسكري التركي واحتمالية شن عملية عسكرية تستهدف مناطق سيطرتها. في هذا السياق، طرحت تركيا مؤخرًا مقترحًا لنقل إدارة هذه المرافق إلى الإدارة السورية الجديدة في دمشق، وهو ما أثار جدلًا واسعًا وتساؤلات حول السيناريوهات المحتملة. بناءً على ما سبق سيتم الإجابة على عدة تساؤلات محورية، أبرزها: ما هي السيناريوهات المحتملة لإدارة ملف السجون والمخيمات في ظل التطورات الراهنة؟ وكيف يمكن أن يؤثر انهيار السيطرة الأمنية على هذه المنشآت في إعادة إحياء تنظيم داعش؟، وللإجابة عن هذه التساؤلات، يتم تناول القضية عبر أربعة محاور رئيسية؛ يستعرض المحور الأول واقع السجون والمخيمات وظروف إدارتها، فيما يناقش المحور الثاني توظيف هذا الملف سياسيًا من قبل الفاعلين المحليين والدوليين. أما المحور الثالث، فيسلط الضوء على المواقف الإقليمية والدولية تجاه القضية، بينما يقدم المحور الرابع تحليلًا معمقًا للسيناريوهات المحتملة وتداعياتها المختلفة على المشهد الأمني والسياسي في المنطقة.

المحور الأول: السجون والمخيمات.. واقع معقد

أولًا. أوضاع السجون: بؤر تفجير أمني محتملة

   بعد الهزيمة العسكرية لتنظيم داعش في معركة الباغوز عام ٢٠١٩م، تحتجز قوات سوريا الديمقراطية (قسد) آلاف المقاتلين داخل سجون تقع في شمال شرق سوريا، حيث تضمّ هذه المرافق نحو تسعة آلاف من قيادات وعناصر التنظيم. ويُعَدّ سجن غويران في الحسكة الأكثر خطورة بينها، نظرًا لحجمه الكبير وسجله السابق في محاولات التمرد والهروب. إلى جانب ذلك، تنتشر سجون أخرى في دير الزور والرقة والشدادي وراجو، لكنها تعاني من ضعف في الحراسة مقارنةً بعدد المحتجزين[1]. ورغم الجهود التي تبذلها قسد لتعزيز الأمن داخل هذه المنشآت، إلا أن نقص الإمكانات والأسلحة المتطورة يحدّ من قدرتها على تأمينها بشكل كامل، ما يجعلها عرضة للهجمات والاختراقات، كما حدث في اقتحام سجن غويران عام ٢٠٢٢، حين تمكّن العديد من عناصر داعش من الفرار، مما مثّل تهديدًا مباشرًا للأمن في المنطقة.

ثانيًا. المخيمات: بيئة خصبة لإعادة بناء داعش

   تضم المخيمات، مثل مخيم الهول وروج، حوالي 56 ألف شخص، معظمهم من عائلات تنظيم داعش، بمن فيهم النساء والأطفال الذين نشأوا في بيئة متطرفة. وتشير التقارير إلى أن المخيمات أصبحت حاضنة أيديولوجية، حيث تعمل النساء المواليات لداعش على غرس الفكر المتطرف في الأجيال الجديدة[2].

ثالثًا. ضعف التأمين والخطر المتزايد

على الرغم من دعم التحالف الدولي، فإن قسد تواجه صعوبات في تأمين هذه المرافق بسبب:

  • الضغط العسكري التركي: الذي يجبر قسد على تحويل قواتها من حماية السجون إلى جبهات القتال.
  • الهجمات المحتملة من داعش: حيث سبق أن حاول التنظيم اقتحام سجن غويران في 2022، مما أدى إلى هروب عدد من المعتقلين.
  • الموارد المحدودة لقسد: حيث تعاني من نقص التمويل والمعدات اللازمة لحراسة مشددة.

المحور الثاني: التوظيف السياسي لملف السجون والمخيمات

أولًا. تركيا: تحجيم النفوذ الكردي

     يمثل ملف السجون والمخيمات فرصة استراتيجية لأنقرة لتقليص نفوذ قوات قسد، التي تعتبرها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني (PKK) ومن هنا جاء اقتراحها بنقل إدارة السجون إلى النظام السوري الجديد، بحجة أن قسد غير قادرة على إدارتها، مما يضعف موقفها أمام المجتمع الدولي[3].

ثانيًا. الولايات المتحدة: مخاوف من هروب الدواعش

   تبدي واشنطن قلقًا بالغًا من احتمالية فرار مقاتلي داعش إذا فقدت قوات قسد السيطرة على هذه المرافق، مما قد يؤدي إلى عودة التنظيم بقوة. ولذلك، تحاول واشنطن الحفاظ على وجودها العسكري في المنطقة رغم الدعوات الداخلية لسحب القوات.

ثالثًا. الإدارة السورية الجديدة: تعزيز الشرعية

   يسعى النظام السوري إلى استغلال هذا الملف لتحسين موقفه أمام المجتمع الدولي، حيث صرّح مسؤولون بأن كل الأسلحة والفصائل الكردية يجب أن تخضع للدولة السورية، وأن تولي دمشق مسؤولية هذه السجون قد يمنحها شرعية أكبر في المحافل الدولية[4].

المحور الثالث: المواقف الدولية والإقليمية

    تتباين المواقف الدولية والإقليمية حول إدارة السجون والمخيمات في شمال سوريا، حيث تسعى كل دولة إلى تحقيق مصالحها الخاصة، مما يؤدي إلى تعقيد هذا الملف السياسي.

أولًا. تركيا: مقترح نقل الإدارة إلى دمشق لتعزيز مصالحها

   بالنسبة لتركيا، فإن أمنها القومي يمثل أولوية قصوى، ولذلك ترى ضرورة إضعاف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تعتبرها تهديدًا محتملًا. من وجهة نظر أنقرة، فإن وجود الآلاف من مقاتلي داعش تحت إدارة قسد يشكل خطرًا كبيرًا، إذ يمكن استخدام هؤلاء المعتقلين كورقة ضغط سياسية أو عسكرية. لذلك، تقترح تركيا نقل إدارة السجون والمخيمات إلى الحكومة السورية الجديدة، باعتبار أن ذلك سيساهم في تعزيز استقرار المنطقة وضمان عدم استغلال السجون من قبل عناصر إرهابية[5]. وتسعى تركيا إلى إقناع روسيا وإيران بدعم هذا التوجه لضمان تنفيذ هذا المقترح.

ثانيًا. الولايات المتحدة: بين دعم قسد والضغوط التركية

   تواجه الولايات المتحدة معضلة صعبة. فمن جهة، تدرك واشنطن أهمية الإبقاء على قسد كحليف رئيسي في محاربة داعش، وهو ما يجعلها مترددة في التراجع عن دعمها لهذه القوات. من جهة أخرى، تواجه الولايات المتحدة ضغوطًا شديدة من تركيا، التي تطالب بضرورة الابتعاد عن دعم الأكراد. ورغم العلاقة الاستراتيجية بين أنقرة وواشنطن، فإن الأخيرة تعارض بشدة نقل إدارة السجون إلى دمشق، خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى إطلاق سراح المعتقلين أو أن يستخدمهم النظام السوري في صفقات سياسية. وعلى الرغم من هذا التعارض، تواصل الولايات المتحدة البحث عن حلول وسط، مثل تعزيز الدعم الأمني لقسد، دون أن تثير غضب تركيا أو تهدد علاقاتها معها.[6]

ثالثًا. العراق: قلق من تداعيات أي انهيار أمني

   يعد العراق من أكثر الدول قلقًا من تداعيات أي انهيار أمني في سجون ومخيمات شمال سوريا. إذ يعتبر العراق الوجهة المحتملة الأولى لمقاتلي داعش الذين قد يفرون من السجون والمخيمات في حال انفلات الأمن هناك. وفي ظل الخوف من عودة نشاط داعش في المناطق الحدودية، وخاصة في المثلث الحدودي بين العراق وسوريا وتركيا، يشدد العراق على ضرورة التنسيق الأمني الدولي المكثف لمنع تدفق العناصر الإرهابية عبر الحدود إلى أراضيه[7].

المحور الرابع: السيناريوهات المحتملة والتداعيات:

1. سيناريو استقرار الوضع الحالي (السيناريو الأكثر ترجيحًا)

   في هذا السيناريو، تواصل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إدارة السجون والمخيمات التي تضم عناصر داعش، مع استمرار الدعم العسكري واللوجستي من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. رغم التحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجهها قسد، فإن هذا الدعم الخارجي يمنحها القدرة على منع حدوث انهيار أمني شامل أو عمليات هروب جماعي واسعة لعناصر التنظيم.

   ويُعزز هذا السيناريو استمرار التنسيق الأمني بين قسد والقوات الأمريكية، حيث توفر الأخيرة دعمًا استخباراتيًا ولوجستيًا للحفاظ على استقرار الوضع. كما أن الضغوط الدولية، خاصة من الدول الأوروبية والعراق، تدفع نحو الإبقاء على الوضع الراهن في ظل غياب بدائل عملية لإدارة هذه المنشآت. من المؤشرات التي تدعم هذا السيناريو نجاح قسد، حتى الآن، في احتواء محاولات التمرد داخل السجون، إضافة إلى تنفيذ التحالف الدولي عمليات نوعية تستهدف خلايا داعش النشطة، مما يقلل من قدرة التنظيم على شن هجمات واسعة تؤثر على التوازن الأمني في المنطقة.

   ولكن رغم هذا الاستقرار النسبي، فإن استمرار الضغوط السياسية لإعادة المحتجزين إلى دولهم الأصلية قد يؤدي إلى إعادة توزيع عناصر التنظيم على نطاق أوسع، ما قد يُضعف قدرة قسد على السيطرة الكاملة على الوضع الأمني. كما إن خطر الهجمات من داعش لا يزال قائمًا، حيث تسعى خلايا التنظيم إلى تنفيذ عمليات تستهدف المنشآت الأمنية بهدف تحرير عناصره المعتقلين. علاوة على ذلك، فإن التهديدات العسكرية التركية المتكررة ضد قسد قد تؤدي إلى تصعيد جديد يضعف قدرتها على تأمين السجون والمخيمات، ما قد يفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر اضطرابًا.

   وبناءً على المعطيات الحالية، يُعتبر هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا على المدى القصير، حيث أن الولايات المتحدة والتحالف الدولي لا يزالان ملتزمين بدعم قسد، ولا توجد مؤشرات قوية على انسحاب وشيك للقوات الأمريكية من المنطقة. ومع ذلك، يبقى الاستقرار هشًا، وأي تغيير في الموقف الأمريكي أو تصعيد عسكري مفاجئ قد يؤدي إلى تحول الوضع باتجاه سيناريوهات أكثر خطورة، مثل انهيار النظام الأمني أو إعادة تنظيم داعش تحت شكل جديد.

2. سيناريو انهيار النظام الأمني في شمال شرق سوريا

   يتصاعد الوضع الأمني في هذا السيناريو نتيجة هجمات داعش المتزايدة أو التدخل العسكري التركي أو حتى ضعف قسد في مواجهة الضغوط العسكرية والاقتصادية. يؤدي ذلك إلى تراجع السيطرة الأمنية، مما يسهل عمليات فرار واسعة لعناصر داعش، قد تعيد تشكيل التنظيم في سوريا والعراق. من المؤشرات الدالة على ذلك تزايد عمليات التمرد داخل السجون خلال الأعوام الماضية، إضافة إلى تقارير عن نشاط متزايد لخلايا التنظيم في المناطق الصحراوية بسوريا والعراق. تداعيات هذا السيناريو ستكون كارثية، حيث قد يستعيد داعش نفوذه، ما يهدد الأمن الإقليمي والدولي، ويؤدي إلى موجة جديدة من الهجمات في المنطقة، مما قد يستدعي تدخلات عسكرية أكبر من قبل أطراف دولية وإقليمية.

3. سيناريو نقل إدارة السجون إلى الحكومة السورية

   قد يدفع التوافق الدولي، بضغط من تركيا أو الولايات المتحدة، نحو نقل مسؤولية إدارة السجون والمخيمات إلى الحكومة السورية، تحت إشراف روسي أو تركي. يدعم هذا السيناريو المساعي الروسية لإعادة بسط نفوذ دمشق على جميع الأراضي السورية، كما أنه قد يُقلل من قوة قسد في المنطقة، مما يساهم في إعادة التوازن العسكري والسياسي. مع ذلك، فإن قدرة الحكومة السورية على إدارة هذه المنشآت تبقى موضع شك، نظرًا لحالة الفوضى التي تعاني منها البلاد ونقص الموارد. إضافةً إلى ذلك، قد يؤدي هذا السيناريو إلى تفاقم التوترات بين الأكراد والحكومة السورية، مما يزيد من عدم الاستقرار في المنطقة.

4. سيناريو التدخل العسكري التركي لتأمين السجون

   في هذا السيناريو، قد تتدخل تركيا عسكريًا للسيطرة على المناطق التي تضم سجون داعش، سواء بالتنسيق مع الحكومة السورية أو بغطاء دولي. يتعزز هذا السيناريو بالنظر إلى التصريحات التركية المتكررة حول نية أنقرة القضاء على “التهديد الإرهابي” القادم من شمال شرق سوريا، فضلًا عن الهجمات الجوية التي نفذتها تركيا ضد مواقع قسد. ولكن هذا التدخل قد يؤدي إلى تصعيد التوترات مع الأكراد، ويفتح الباب أمام مواجهات مباشرة بين الجيش التركي وقوات قسد، مما يعزز الفوضى الأمنية ويمنح داعش فرصة للتمدد. كذلك، قد تواجه تركيا انتقادات دولية بسبب تدخلها العسكري في سوريا، مما يزيد من الضغوط السياسية عليها.

5. سيناريو إعادة تنظيم داعش تحت شكل جديد

في هذا السيناريو، يتمكن تنظيم داعش من إعادة تجميع صفوفه عبر خلاياه النائمة أو من خلال استغلال الفوضى الأمنية في السجون والمخيمات. المؤشرات الحالية تدعم هذا الطرح، حيث شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعًا في عمليات التنظيم في سوريا والعراق، إلى جانب تقارير عن استمرار عمليات التجنيد داخل السجون. إذا تحقق هذا السيناريو، فإن المنطقة ستواجه موجة جديدة من العنف، تشمل هجمات إرهابية داخل سوريا والعراق وربما تمتد إلى تركيا وأوروبا، ما يستدعي تحركًا دوليًا أكثر قوة لمواجهة التنظيم.

6. سيناريو تصعيد التوترات بين الأكراد وتركيا

   يُحتمل أن يؤدي تصاعد التدخلات العسكرية التركية في شمال شرق سوريا إلى تدهور العلاقات مع الأكراد، مما قد يؤثر سلبًا على قدرة قسد على تأمين السجون والمخيمات. المؤشرات الحالية تشير إلى استمرار الضربات الجوية التركية ضد مواقع قسد، بالإضافة إلى المناوشات المتكررة على الحدود. في حال تطور هذه التوترات إلى مواجهات عسكرية واسعة، فقد ينهار النظام الأمني، مما يمنح داعش فرصة لتنفيذ عمليات هروب جماعي وإعادة تنشيط خلاياه في المنطقة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تداعيات أمنية خطيرة تمتد إلى دول الجوار.

     في النهاية، يظل ملف السجون والمخيمات في شمال شرق سوريا قضية شديدة التعقيد، تتداخل فيها العوامل الأمنية والإنسانية والسياسية. وفي ظل غياب حل شامل، تبقى المنطقة معرضة لخطر انفجار الأوضاع، مع تداعيات قد تمتد لتشمل العالم بأسره. إن معالجة هذا الملف تتطلب إرادة دولية جادة، ورؤية استراتيجية تجمع بين الحلول الأمنية والتنموية لتحقيق الاستقرار الدائم.


[1] United Nations Office of Counter-Terrorism. The Status of ISIS Detainees in Northeast Syria: Challenges and Implications. New York: United Nations, 2024.

[2] Carnegie Middle East Center. ISIS’s Shadow in Northeast Syria: Security Risks and Political Challenges. Beirut: Carnegie Middle East Center, 2024.

[3] Turkish Ministry of Foreign Affairs, “Press Statement by Minister Hakan Fidan on Syrian Camps and Prisons.” Ankara: Ministry of Foreign Affairs, January 10, 2025.

[4] بهاء العوام، “سجون “داعش” في سوريا أزمة تجددت مع سقوط نظام الأسد”، موقع اندبندنت عربية، 9 يناير 2025، متاح على: https://www.independentarabia.com/node/615431 ، تم الدخول على الرابط بتاريخ: 28.1.2025

[5] Yildirim, R., “Turkey’s Changing Strategy in Syria: From Containment to Intervention.” The International Spectator,2017, 52(3), 50-67.

[6] Lynch, C. “The United States and the Syrian Kurds: Strategic Allies or Tactical Partners?” The Washington Post, 2019. Date of enter: 28-1-2025. . available on:. HTTPs://www.washingtonpost.com/world/2019/10/07/united-states-syrian-kurds-strategic-allies-or-tactical-partners/.

[7] Al-Saadi, M., “Iraq’s Strategic Dilemma in the Face of ISIS and Border Security.” Middle East Policy, 27(4), 2020,103-115.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى