تقارير

قمة القاهرة الثلاثية: تحالف العقلانية في لحظة الاختبار الإقليمي

إعداد: ياسمين محمود حامد البوني – باحثة مشاركة.

في زمن تتسارع فيه وتيرة التصعيد العسكري وتتآكل فيه مساحات الحل السياسي، انعقدت القمة الثلاثية بين مصر والأردن وفرنسا في قصر الاتحادية لتشكل علامة فارقة في مشهد إقليمي بالغ التعقيد. لم تكن القمة ترفًا دبلوماسيًا ولا مناسبة بروتوكولية، بل جاءت استجابة مباشرة لتحولات متسارعة تهدد بانفجار شامل في أكثر من بؤرة توتر في المنطقة. بدايًة من قطاع غزة الذي يتعرض لحرب مدمّرة، مرورًا بالضفة الغربية والقدس، وصولًا إلى جنوب لبنان وسوريا، بدت المنطقة وكأنها تقترب من لحظة اشتعال لا تملك أطرافها رفاهية الانتظار. وعليه، ظهرت القمة كحالة تحرك سياسي منسق، تقوده القاهرة بثقلها التاريخي والدبلوماسي، مدعومة بدور أردني واعٍ للتحديات، وحضور فرنسي يسعى لترميم الدور الأوروبي في معادلات الشرق الأوسط.

أهمية التوقيت: ما قبل الانفجار؟

     جاءت القمة في لحظة فارقة، حيث تصاعدت العمليات العسكرية الإسرائيلية في جنوب غزة، لا سيما في رفح وخان يونس، وسط تحذيرات أممية من كارثة إنسانية وشيكة. وفي خلفية المشهد، كانت الضفة الغربية تمر باحتقان غير مسبوق، تزامنًا مع تسريبات عن نوايا إسرائيلية لفرض وقائع جديدة على الأرض. كما شهد البحر الأحمر تصعيدًا مستمرًا بفعل المواجهات بين الولايات المتحدة والحوثيين، في ظل تصاعد التوترات بين واشنطن وطهران. في ظل هذا المشهد المتشابك، بدت مصر كطرف إقليمي يتعرض لضغوط متزايدة، خاصة مع الدعوات الدولية المتكررة لفتح معبر رفح بشكل دائم، وهو ما قوبل بموقف مصري صارم يرفض التهجير القسري ويؤكد على ثوابت الأمن القومي .[1]

رسائل سياسية: إلى الأطراف الإقليمية والدولية

      لم تكن القمة الثلاثية بين مصر، الأردن، وفرنسا مجرد مناسبة دبلوماسية شكلية، بل حملت في طياتها رسائل سياسية قوية ومحددة إلى مختلف الأطراف الدولية والإقليمية، حيث إن الرسائل التي صدرت كانت واضحة، وتستهدف التأكيد على المواقف الثابتة للدول المشاركة. كما تسعى إلى إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة، وتوجيه دفة التفاعل الدولي بعيدًا عن منطق القوة إلى منهجية الحلول السياسية الواقعية.[2]

  1. إلى إسرائيل:

     كان هناك إعلان واضح من الدول الثلاث عن رفض أي محاولة لفرض واقع جديد على الأرض بالقوة. أبرز الرسائل تمثلت في التأكيد على أن خطط تهجير الفلسطينيين من غزة أو الضفة الغربية مرفوضة تمامًا، وأي محاولة لتغيير الطابع الديمغرافي للمنطقة سيتم التصدي لها بحزم. بالإضافة إلى أن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى العريش تمثل رسالة حاسمة من المجتمع الدولي، وخاصة من فرنسا، تؤكد أن التوسع في هذه السياسات سيكون له تبعات سياسية خطيرة على المستوى الدولي، وأن الدعم الأوروبي لإسرائيل يجب أن يكون مشروطًا بمراعاة حقوق الفلسطينيين.

  • إلى الولايات المتحدة:

      تعتبر القمة بمثابة رد دبلوماسي مباشر على محاولات الولايات المتحدة المتكررة للضغط على الدول العربية لفتح المعابر بشكل دائم وبدون ضمانات للمواطنين الفلسطينيين. هذه الرسالة تؤكد على أن السياسات الأحادية التي تميز طرفًا على حساب الآخر لن تقود إلى تسوية دائمة، وأن التوازن السياسي والاحترام المتبادل لحقوق جميع الأطراف يجب أن يكون هو الأساس لأي حل مستقبلي. وأن أوروبا، من خلال فرنسا، تسعى لأن تكون الوسيط المعتدل، بعيدًا عن الانحيازات الأميركية التي قد تقوض عملية السلام[3].

  • إلى أوروبا:

       كانت القمة بمثابة دعوة إلى إعادة تقييم مواقف أوروبا تجاه الشرق الأوسط. رسالتها كانت مفادها أن أمن البحر المتوسط يبدأ من ضفته الجنوبية، وأن استقرار المنطقة لا يتعلق فقط بالدول العربية، بل هو مصلحة استراتيجية أوروبية تشمل قضايا الهجرة، الطاقة، والأمن البحري. التوترات الإقليمية التي تهدد أمن أوروبا تتطلب إعادة التفكير في التعاون الإقليمي مع الدول العربية، لضمان معالجة أزمات المنطقة بشكل شامل. كما أن أوروبا بحاجة إلى تعزيز موقف سياسي مستقل بعيدًا عن الضغوطات الأميركية.

  • إلى الشعب الفلسطيني:

      جرى التأكيد على إن مصر والأردن وفرنسا مساندين للقضية الفلسطينية، ليس فقط عبر البيانات الدبلوماسية، بل أيضًا عبر العمل على إحياء عملية السلام والضغط على الأطراف الدولية لتحقيق حل الدولتين. لذلك كانت القمة بمثابة إعادة إحياء الأمل لدى الفلسطينيين بأن هناك دولًا لا تزال تدعمهم وتعمل على ضمان حقوقهم المشروعة في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.

  • إلى العالم العربي:

       في إطار تعزيز وحدة الموقف العربي، أكدت القمة على أهمية التنسيق العربي المشترك في التصدي للتحديات الإقليمية، بما في ذلك التصعيد في غزة والضفة الغربية. وجاءت الرسالة لتقول إن التعاون بين مصر والأردن هو نموذج للقدرة على تحقيق الأهداف المشتركة للأمة العربية في مواجهة القوى الخارجية التي تسعى لتغيير الحقائق السياسية والإنسانية في المنطقة.

       كل هذه الرسائل، التي تم تضمينها في البيان المشترك، تعكس توجهًا سياسيًا مدروسًا يهدف إلى التأكيد على الحلول السياسية، وأن العقلانية والتنسيق بين الأطراف الفاعلة في المنطقة ما زالا السبيل الأوحد لتفادي تزايد حدة التوترات، فقد انتهت القمة ببيان ثلاثي مشترك دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، ورفض مطلق لأي محاولات لتهجير الفلسطينيين أو فرض واقع جديد بالقوة. كما شدد البيان على ضرورة استئناف مسار سياسي حقيقي يقوم على حل الدولتين واحترام الوضع القانوني والتاريخي في القدس. وأكد البيان على دعم خطة إعادة إعمار غزة تحت إشراف السلطة الوطنية الفلسطينية، وبمشاركة إقليمية ودولية، مع الدعوة لعقد مؤتمر دولي للسلام في يونيو2025. [4]

أفق جديد للوساطة الدولية

     في ظل انسداد المسارات التقليدية للوساطة، أعادت قمة القاهرة طرح نموذج مختلف للتدخل السياسي، قائم على الاعتدال المبدئي، لا على الحياد السلبي. فمصر، بصفتها الدولة العربية الوحيدة التي تتمتع بعلاقات فاعلة مع كل الأطراف، من الولايات المتحدة إلى السلطة الفلسطينية وحركة حماس، تطرح نفسها كفاعل جامع وليس مجرد ناقل للرسائل. وفي الوقت ذاته، لم تكن فرنسا مجرد ضيف غربي تقليدي، بل حملت رؤية أكثر تماسكًا هذه المرة، تعكس إدراكًا أوروبيًا متزايدًا بأن استمرار الحرب سيُفاقم أزمات القارة ذاتها، سواء من ناحية أمن الطاقة أو موجات النزوح أو تصاعد المد الراديكالي. أما الأردن، فحضوره لم يكن رمزيًا بقدر ما هو تعبير عن دولة تقف على خط النار السياسي والديمغرافي، وتخشى كما مصر من محاولات الدفع بالفلسطينيين خارج أراضيهم، وتفكيك فكرة الدولة الفلسطينية عبر خلق واقع ميداني على حساب سيادة دول الجوار.

تحالف رد الفعل أم نواة لتكتل إقليمي جديد؟

     سؤال بات مطروحًا بقوة عقب القمة: هل نشهد ولادة نواة صلبة لتحالف إقليمي عقلاني؟ في ظل تفكك كثير من الأطر الجماعية في المنطقة، تبدو القاهرة وعمّان وباريس وكأنها تحاول خلق تحالف وظيفي، لا يقوم على وحدة أيديولوجية أو ثقافية، بل على أهداف ملموسة: وقف الحرب، منع التهجير، دعم الحل السياسي، وحماية استقرار الدول المحورية. هنا لا يجب إغفال أن هذا النوع من التحالفات – حتى وإن وُلد كرد فعل – قد يشكّل لاحقًا إطارًا أوسع للتنسيق في ملفات إقليمية أخرى، من سوريا إلى السودان، ومن الأمن البحري إلى تنظيم علاقات المنطقة بالقوى الدولية الكبرى.

غياب واشنطن وصعود البدائل؟

     واحدة من أهم الدلالات غير المعلنة في القمة، هي الفراغ الأميركي التدريجي في ملفات الشرق الأوسط، إذ بدت واشنطن، رغم تصريحاتها المتكررة، غائبة عن خطوط الحل السياسي الحقيقي، ومعنية فقط بترتيب الأوراق بما لا يضر بمصالح إسرائيل الاستراتيجية. هذا الغياب، فتح الباب أمام قوى إقليمية كبرى، وعلى رأسها مصر، لإعادة تموضعها ليس فقط كوسيط بل كمحور يعيد تعريف مفهوم الأمن الإقليمي وفق رؤية متعددة الأطراف، لا رؤية القطب الواحد.

ما بعد القمة: اختبار الإرادة والإجراءات العملية

      القمة الثلاثية في القاهرة لا تعني نهاية المسار، بل هي بداية لمرحلة جديدة من التحركات الدبلوماسية التي سيكون نجاحها مرهونًا بمدى قدرة الأطراف المعنية على ترجمة التعهدات إلى أفعال ملموسة على الأرض. إذا كان البيان المشترك قد شدد على ضرورة وقف إطلاق النار في غزة ورفض محاولات التهجير، فإن التنفيذ الفعلي لهذا القرار يحتاج إلى ضغط مستمر من الدول الثلاث بالإضافة إلى دعم المجتمع الدولي. في هذا السياق، يكمن التحدي الأكبر في تحقيق الاستقرار المؤقت في غزة، وضمان وصول المساعدات الإنسانية بشكل فوري دون أي عراقيل، وهو ما يتطلب تنسيقًا دقيقًا بين مصر والأردن وفرنسا، خاصة في ظل الوجود الأميركي المحدود في المشهد السياسي. من جهة أخرى، تظل القضايا الميدانية في الضفة الغربية وجنوب لبنان على رأس قائمة القضايا التي يجب معالجتها بشكل عاجل لتجنب تمدد النزاعات[5].

    فيما يتعلق بإعادة إعمار غزة، قد يكون هنالك حاجة ماسة لتكثيف الدعم الدولي والإقليمي لضمان أن لا تتحول الخطة إلى مجرد تصريحات، بل إلى برنامج حقيقي يمتد ليشمل المجتمع الدولي كله، ويتعامل مع المشاكل الهيكلية والتشريعية التي يعاني منها القطاع. الحلول السياسية مثل “حل الدولتين” بحاجة إلى أن تكون مؤطرة بآليات تنفيذ واضحة، وعليه فإن الفشل في إحياء هذه الآليات سيكون بمثابة فشل في القمة نفسها. المحك الحقيقي للقمّة سيكون في مدى جدية الأطراف في تنفيذ القرارات وتنظيم التوافقات العملية اللازمة من أجل ضمان الاستقرار الإقليمي، وتجنب أي محاولات لتصفية القضية الفلسطينية من خلال فرض واقع جديد على الأرض.

هل تنجح العقلانية؟

     في واقع إقليمي تتزايد فيه مظاهر الفوضى، وتستحكم فيه منطق المصالح الضيقة والتحالفات الظرفية، تبدو العقلانية السياسية وكأنها خيارٌ مثاليّ في زمن لم يعُد يحتمل المثاليات. ومع ذلك، فإن القمة الثلاثية في القاهرة أعادت الاعتبار لهذا الخيار، وطرحت نفسها كحالة استثنائية يمكن البناء عليها إن توافرت الإرادة والتنسيق والضغط الدولي الفعّال. فالعقلانية التي تطرحها مصر والأردن وفرنسا ليست استسلامًا أمام الوقائع المفروضة، بل محاولة لإعادة صياغة المشهد بوسائل الحوار والقانون الدولي، على قاعدة أن الاستقرار لا يتحقق بالقوة العسكرية وحدها، بل بتسويات عادلة تحفظ الحد الأدنى من الحقوق وتراعي توازنات الواقع. هذا المسار يواجه تحديات ضخمة؛ فإسرائيل تواصل التصعيد دون رادع، والإدارة الأميركية تبدو حبيسة اعتبارات انتخابية داخلية تجعلها عاجزة عن اتخاذ خطوات أكثر توازنًا، بينما يعاني النظام الدولي من حالة شلل أخلاقي وتراجع فاعلية المؤسسات متعددة الأطراف.

      إن رهان العقلانية، رغم صعوبته، يظل الخيار الوحيد القادر على إنقاذ المنطقة من سيناريوهات الانفجار، وهو يتطلب شجاعة سياسية واستراتيجية بعيدة المدى، تعيد الاعتبار للشرعية الدولية، وتضع مصالح الشعوب في مقدمة الأولويات. ما بعد القمة سيكون اختبارًا لقدرة هذا التحالف الثلاثي على ترجمة الخطاب إلى فعل، وعلى تحويل المبادرة إلى مسار سياسي فاعل يمكنه فرض نفسه على طاولة التفاوض الإقليمي والدولي. في النهاية، لا يمكن الإجابة على سؤال “هل تنجح العقلانية؟” بشكل قاطع، لكن القمة الثلاثية قدمت أول محاولة جدية للرد بالإيجاب، وفتحت نافذة أمل وسط عاصفة من الغموض. نجاح هذه المحاولة يتوقف على أمرين: استمرار التنسيق العميق بين أركان التحالف الثلاثي، وتحرك أوسع للضمير الدولي نحو إنقاذ ما تبقى من إمكانية للسلام..


[1]صحيفة المنار، خارطة انتشار التعزيزات العسكرية الأمريكية الأخيرة في الشرق الأوسط”،إبريل 2025، متاح على: https://manar.com/page-50252-ar-ar-ar.html، تاريخ الدخول: 10-4-.2025

[2] إرم نيوز، “قمة القاهرة تدعو إلى وقف إطلاق النار وإعادة إعمار غزة”، إبريل 2025، متاح على:https://www.eremnews.com/news/Arab-world/bl6y31e، تاريخ الدخول: 10-4-2025.

[3] المرجع السابق.

[4]. اليوم السابع، نص البيان المشترك المصري الأردني الفرنسي في ختام القمة الثلاثية بالقاهرة”، إبريل 2025، متاح على:https://n9.cl/4dvv6، تاريخ الدخول: 10-4-2025.

    [5]صحيفة الشرق الأوسط، التداعيات الجيوسياسية للاشتباكات في غزة على الشرق الأوسط”، إبريل 2025، متاح على: https://www.alsharqalawsat.com/ ، تاريخ الدخول: 10-4-2025.

    مقالات ذات صلة

    زر الذهاب إلى الأعلى