الدراسات

الأبعاد والدوافع الاستراتيجية للأزمة الأميركية الكندية: دراسة تحليلية

إعداد: مونيكا ويليام – باحثة مشاركة.
مراجعة: د. تامر سامي – مدير برنامج الدراسات الإستراتيجية.

المقدمة:-

تُعد العلاقة بين الولايات المتحدة وكندا من أكثر العلاقات تعقيدًا وتشابكًا في النظام الدولي، نظرًا للتداخل الجغرافي، والتكامل الاقتصادي، والتاريخ الطويل من التعاون والتحالف ضمن أطر مؤسسية مثل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (NAFTA) وحلف شمال الأطلسي (الناتو). ورغم هذا التعاون العميق، ففي خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي يشهدها النظام الدولي، تبرز أطروحات ومناقشات فكرية، وإن بدت على السطح غير واقعية أو غير مباشرة، إلا أنها تحمل في طياتها دلالات استراتيجية عميقة، من بين هذه الأطروحات ما يتعلق بمدى رغبة أو سعي الولايات المتحدة، القوة العظمى في الغرب، إلى ضم كندا أو توسيع نفوذها فيها بشكل غير مباشر، ورغم أن فكرة الضم المباشر قد تبدو مستبعدة في السياق المعاصر، إلا أن قراءة الأبعاد الاستراتيجية للعلاقات الأميركية الكندية تكشف عن أن واشنطن تنظر إلى كندا ليس فقط كحليف، بل كامتداد جيوسياسي واقتصادي وجغرافي لمنظومتها العالمية؛ وهو ما أثار جدلًا واسعًا داخل كندا وأعاد إلى الواجهة نقاشات حول مدى استقلالية القرار الكندي أمام القوة الجارفة للهيمنة الأميركية.

وفي هذا السياق، يمكن القول إن الرئيس المنتخب دونالد ترامب بعث من خلال تصريحاته المتكررة جملة من الرسائل التي تعكس تمسكه بمبدأ “أمريكا أولاً”، وسعيه إلى إعادة تشكيل علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها وشركائها وفقاً لمعادلة تقوم على تعظيم المصالح القومية الأميركية. وقد وظّف ترامب في ذلك مزيجاً من الخطاب الحاد واللغة التصعيدية، مدفوعاً بنزعة تفاوضية تهدف إلى دفع الأطراف المقابلة نحو مواقع دفاعية، ما يتيح له تحقيق مكاسب تفاوضية لصالح واشنطن.

إلا أن هذا التوجه لا يخلو من مخاطر استراتيجية، إذ إن تعمد ترامب التقليل من أهمية التحالفات الدولية الراسخة، واعتماده على التهديد والترهيب كوسيلة ضغط، قد يؤدي إلى تقويض الثقة المتبادلة بين الولايات المتحدة وحلفائها، ويمنح خصومها الاستراتيجيين – مثل الصين وروسيا وإيران – فرصة أوسع لتعزيز حضورهم ونفوذهم في مناطق كانت تقليديًا ضمن المجال الحيوي الأميركي. تأسيسًا علي ما سبق، تركز المحاور علي استقراء الأبعاد والدوافع الاستراتيجية الكامنة خلف هذه الطموحات الأميركية، وما إذا كانت تعبر عن رؤية عميقة أم مجرد مناورة سياسية، مع تناول السياقات التاريخية والجيوسياسية والاقتصادية التي تؤطر هذا الطرح.

أولًا: إرهاصات الأزمة

منذ وصول الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض خلال الولاية الأولى عام 2017، أثار جملة من الأزمات مع عدد من الدول، بما في ذلك الدول الحليفة للولايات المتحدة، ومن أبرز هذه الأزمات إعادة النظر في الرسوم الجمركية المفروضة على الصين، وكندا، ودول أخرى. حيث طالب بتعديل شامل للاتفاقية التجارية التي أُقرّت منذ 25 عاماً مع كندا، كونها “كارثة” تلحق الضرر بالاقتصاد الأمريكي و”تهدد أمنه القومي”.

وفي ضوء هذه التصورات، فرضت إدارة ترامب في عام 2018 سلسلة من الرسوم الجمركية على كندا، وذلك في إطار استراتيجيته الاقتصادية المعروفة بـ”أمريكا أولاً”، التي هدفت إلى تقليص العجز في الميزان التجاري عبر تحويل السياسة التجارية الأمريكية من الاتفاقيات متعددة الأطراف إلى صفقات ثنائية. وقد تبع هذه الإجراءات أزمة حادة بين الرئيس ترامب ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، إذ واجهت كندا فرض الرسوم الأمريكية على واردات الفولاذ والألمنيوم الكنديين بفرض رسوم مضادة على عدد من المنتجات الأمريكية، تراوحت نسبها بين 10% و25%، في خطوة انتقامية ضد سياسات ترامب، التي كبّدت الاقتصاد الكندي خسائر قدرت بعشرات المليارات من الدولارات. ومع نهاية عام 2018، نجح المفاوضون الجانبان في التوصل إلى اتفاق لتعديل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا)، والتي كان ترامب قد طالب بإلغائها وإعادة التفاوض بشأنها مع كل من كندا والمكسيك

وعلي صعيد الداخل الكندي، تشير نتائج استطلاعات الرأي والدراسات الاستقصائية التي أُجريت خلال العشرين عامًا الماضية إلى أن فكرة انضمام كندا إلى الولايات المتحدة لا تحظى بأي تأييد يُذكر داخل المجتمع الكندي. إذ أظهرت معظم هذه الاستطلاعات أن نسبة المؤيدين لهذا الطرح لا تتجاوز 7%، فيما تبقى الأغلبية الساحقة من الكنديين رافضة تمامًا له، مستندة في ذلك إلى اعتبارات الهوية الوطنية والتاريخ الكندي المستقل. ويؤكد هذا الاتجاه استطلاع رأي حديث أجراه معهد “أنجوس ريد” الكندي في أواخر عام 2024، حيث عبّر فقط 6% من المستجيبين عن تأييدهم لفكرة الانضمام إلى الولايات المتحدة، في مقابل رفض واسع للفكرة على مستوى وطني. ومن الجدير بالذكر أنه لا يوجد أي سياسي بارز، سواء في كندا أو في الولايات المتحدة، يطرح علنًا مسألة الضم أو يدعو لها، كما أن أي هيئة تشريعية فدرالية في كندا لم تشهد انتخاب عضو يؤيد هذا التوجه.

في ضوء قياس ردود الفعل المتباينة داخل كندا تجاه تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، برزت هذه القضية كعامل محوري في تشكيل توجهات الناخبين الكنديين خلال الانتخابات الأخيرة 2025، فقد أظهرت استطلاعات الرأي ميلًا واضحًا لصالح الحزب الليبرالي، الذي نجح زعيمه الجديد مارك كارني في تبني مواقف واضحة وقوية تجاه سياسات ترامب، ما أكسبه تأييداً واسعاً بين الكنديين. في المقابل، عانى حزب المحافظين من غياب رؤية محددة إزاء هذه المسألة، مما أضعف موقفه في المشهد الانتخابي. ولذلك اكتسبت هذه الانتخابات طابعًا مفصليًا وأهمية مضاعفة باعتبارها أول اختبار حقيقي لمسار كندا في مرحلة ما بعد رئيس الوزراء السابق جاستن ترودو، لاسيما في ضوء تصاعد القلق الشعبي في كندا من سياسات ترامب العدائية، بما في ذلك تصريحاته المثيرة للجدل حول ضم كندا كولاية أميركية، والحرب التجارية التي شنّها ضد كندا، هذه التطورات برزت أثارت اللحظة الفارقة في الوعي الجمعي الكندي.

ثانيًا: جوانب الطموحات التوسعية الأميركية تجاه كندا

رغم العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة وكندا، والتي تقوم على أسس من التعاون الاقتصادي والأمني، إلا أن الخطاب السياسي والإعلامي في بعض الفترات لم يخلُ من تلميحات أو دعوات ضمنية أو صريحة لضم كندا إلى الولايات المتحدة، تعكس في جوهرها أطماعاً أمريكية قديمة، لا سيما في القرن التاسع عشر. وتستند هذه الأطماع إلى اعتبارات وأبعاد جغرافية واستراتيجية، حيث تُعد كندا امتداداً طبيعياً للعمق الشمالي الأميركي، إضافة إلى ما تمتلكه من ثروات طبيعية هائلة وموقع جيوسياسي بالغ الأهمية، ومع عودة الخطاب القومي الأميركي المتشدد في بعض الأوساط، برزت بين حين وآخر أصوات، خاصة في دوائر اليمين، تتحدث عن “وحدة قارية” أو عن ضرورة “إعادة رسم الحدود” بما يعزز من الهيمنة الأميركية في نصف الكرة الشمالي، وعلى الرغم من أن هذه الدعوات لا تحظى بتأييد رسمي، إلا أنها تكشف عن منطق توسعي كامن في بعض جوانب الرؤية الأميركية تجاه الجوار الكندي، ويمكن حصر الأبعاد علي النحو التالي والتي تتمثل في 6 ابعاد :-

  1. الأبعاد التاريخية والجغرافية للعلاقة بين البلدين

لطالما شكلت كندا والولايات المتحدة وحدة جغرافية متماسكة، تفصلها حدود برية تعد الأطول في العالم غير المحمية عسكريًا. منذ القرن التاسع عشر، حاولت بعض الدوائر الأميركية الترويج لفكرة “القدر المتجلي” التي تقوم على توسّع الولايات المتحدة شمالًا وجنوبًا باعتباره حقًا طبيعيًا ومشروعًا. وعلى الرغم من فشل محاولات عسكرية محدودة لضم أراضٍ كندية خلال الحرب الأميركية البريطانية (1812–1815)، فإن الجذور لهذا الطموح بقيت كامنة في بعض دوائر الفكر السياسي الأميركي.

وقد ظلت كندا، رغم استقلالها السياسي وتمايزها الثقافي عن الولايات المتحدة، ترتبط اقتصاديًا وعسكريًا بشكل كبير بجارتها الكبرى، ما أوجد نوعًا من الاعتماد المتبادل، ولكنه في الوقت نفسه فتح المجال أمام رغبات توسعية تحت غطاء التعاون والتكامل.

2 .البعد الاقتصادي-الموارد والسيطرة على الأسواق

رغم استقلال كندا السياسي وتمايزها القانوني والدستوري والثقافي، إلا أن التأثير الأميركي فيها هائل على المستويات الاقتصادية والثقافية، فالولايات المتحدة هي الشريك التجاري الأول لكندا، وتشكل الصادرات الكندية إلى السوق الأميركية أكثر من 76% من مجمل صادراتها، وذلك وفقًا لبيانات هيئة الإحصاء الكندية لعام 2024، واستوردت نصفها منها. واعتبارًا من عام 2023 (أحدث البيانات المتاحة من مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي وهيئة الإحصاء الكندية)، كانت الولايات المتحدة أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي المباشر من حيث القيمة في كندا (618.2 مليار دولار كندي / حوالي 455 مليار دولار أمريكي)، وكانت كندا ثالث أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي المباشر الأمريكي (671.7 مليار دولار أمريكي). وكانت كندا أكبر مورد لواردات الطاقة الأمريكية، بما في ذلك النفط الخام والغاز الطبيعي والكهرباء، وارتفعت حصة كندا من واردات النفط الخام الأمريكية من حيث الكمية من 38% (1.02 مليار برميل) في عام 2014 إلى 63% (1.48 مليار برميل) في عام 2024 [i]

كما أن الشركات الأميركية الكبرى تسيطر على قطاعات التكنولوجيا والاتصالات والإعلام في كندا، وبالتالي تنظر الشركات الأميركية إلى السوق الكندية باعتبارها امتدادًا طبيعيًا للسوق الداخلية، وتعارض ضمنًا أي سياسات كندية تسعى لتعزيز الاستقلال الصناعي أو المالي عن الولايات المتحدة. إلى جانب ذلك، من المنظور الأميركي، تشكل كندا مخزونًا استراتيجيًا من الموارد الطبيعية، فهي غنية بالمعادن، والنفط، والمياه العذبة، والغابات، وتحتل موقعًا متقدمًا في تصدير الطاقة والغذاء، كما أن الاستثمارات الأميركية في كندا ضخمة، ويتجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين تريليون دولار سنويًا.

وتبعًا لذلك، فإن ضم كندا ولو نظريًا من شأنه أن يمنح الولايات المتحدة قدرة غير مسبوقة على التحكم في سلاسل الإمداد العالمية، وتأمين مصادر الطاقة والغذاء على المدى البعيد، خاصة في ظل تصاعد التنافس مع قوى اقتصادية كبرى مثل الصين والاتحاد الأوروبي.

3.الهيمنة الناعمة -البعد الثقافي

هذا النفوذ الاقتصادي تواكبه هيمنة ثقافية واضحة؛ حيث تتغلغل الثقافة الأميركية في تفاصيل الحياة اليومية للكنديين، ورغم التشابه النسبي في بعض القيم الثقافية، إلا أن كندا حرصت تاريخيًا على إبراز هويتها المتمايزة، المستندة إلى التعددية الثقافية والانفتاح على العالم. وقد تجلّى هذا في سياسات الهجرة، والرعاية الصحية، والبيئة، وحقوق الإنسان، وهي سياسات غالبًا ما تتناقض مع التوجهات الأميركية، خاصة في عهد ترامب.

ومن هنا، فإن فكرة الضم الأميركي لكندا لا تواجه عقبات سياسية فقط، بل تصطدم بالنسق المتعلق بالهوية الوطنية الكندية، التي تعززت في مواجهة السياسات الأميركية في العقود الأخيرة، وبخاصة مع تفشي النزعة القومية الشعبوية في الولايات المتحدة.

4.البعد الجيوسياسي والعسكري

من الناحية الجيوسياسية، يُعدّ شمال الولايات المتحدة ساحة آمنة نسبيًا للولايات المتحدة، مقارنة بأوروبا أو الشرق الأوسط. إلا أن التحولات الجيوسياسية، وعودة التنافس بين القوى الكبرى، دفعت واشنطن إلى تعزيز نفوذها المباشر في محيطها الحيوي.

في هذا الإطار، فإن السيطرة غير المباشرة على كندا أو حتى إثارة خطاب ضمّها قد يحمل رسالة مزدوجة: أولًا تأكيد الهيمنة الأميركية على القارة الشمالية، وثانيًا الحد من احتمالات تنامي علاقات كندا مع قوى مثل الصين وروسيا، خاصة في مجالات التكنولوجيا والطاقة. كما تمثل منطقة القطب الشمالي – التي تتشارك فيها كندا وروسيا – ساحة تنافس مستقبلي شديد الحساسية، وقد تسعى الولايات المتحدة لتقويض أي تحرك كندي مستقل في هذا الاتجاه من خلال تعميق الهيمنة.

5. الأمن والدفاع – الدمج في العقيدة الأطلسية

تٌعدً كندا عضوًا مؤسسًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلا أن دورها في الحلف يتداخل إلى حد كبير مع الدور الأميركي. فمعظم القرارات العسكرية والاستراتيجية التي تتخذها كندا تصب في خانة الأجندة الأميركية، خاصة في ما يتعلق بالسياسات الدفاعية في القطب الشمالي، أو المشاركة في المهام الدولية، كما في أفغانستان والعراق.

بالإضافة إلى ذلك، يشكل اتفاق الدفاع الجوي المشترك المعروف باسم “نوراد” (NORAD) بين كندا والولايات المتحدة نموذجًا فريدًا لدمج السيادة العسكرية. هذا الاتفاق يُمكّن واشنطن من مراقبة الأجواء الكندية واتخاذ قرارات دفاعية مشتركة، بل منفردة أحيانًا، في حال التهديدات الطارئة، ما يقلص فعليًا من حرية القرار الكندي في ميدان الأمن القومي.

6.البعد السياسي والانتخابي

علي صعيد السياسة الداخلية الأميركية، قد تُستخدم فكرة ضم كندا كورقة رمزية لحشد القواعد القومية أو الشعبوية، مثلما حدث في تصريحات ترامب، الذي تعمّد استفزاز كندا وتوظيف القلق القومي الكندي لتعزيز صورته كزعيم قوي لا يعترف بالحواجز الجغرافية أو الاعتبارات الدبلوماسية التقليدية.

أما في كندا، فقد مثلت تلك التصريحات عاملًا محفزًا لتوحيد الجبهة الداخلية، وإعادة طرح قضايا السيادة والاستقلال، وهو ما ساهم في ترجيح كفة الليبراليين في الانتخابات الأخيرة بعد نجاحهم في تبني خطاب حازم تجاه سياسات ترامب، خلافًا لتردد المحافظين.

ثالثًا : رسائل ترامب بين الهيمنة والصفقات

تتجاوز تصريحات ترامب كونها مجرد خطابات شعبوية، لتعبّر عن توجه استراتيجي يعكس فلسفة “أمريكا أولاً” في أكثر صورة راديكالية، وسعيه لمعالجة التحديات التي يراها جوهرية للأمن القومي الأميركي، في عالم يتسم بتصاعد دور الصين وتفاقم أوجه عدم المساواة في العولمة. وفي هذا الإطار، يمكن استخلاص الدلالات التالية:

  1. إعادة تفعيل مبدأ مونرو وتوسيع النفوذ الإقليمي تأتي هذه التصريحات ضمن مساعٍ لإحياء مبدأ مونرو، الذي أُعلن عنه عام 1823 وشكّل لسنوات طويلة ركيزة السياسة الخارجية الأميركية، حيث يرى في نصف الكرة الغربي مجالاً حيوياً خاصاً للولايات المتحدة. ويبدو أن ترامب مصمم على توسيع هذا المفهوم ليشمل تعزيز الحضور الأميركي في المنطقة، ويحد من تنامي نفوذ بعض القوى الخارجية، لاسيما الصين، بحجة في بلدان أميركا اللاتينية والكاريبي للحد من موجات الهجرة غير النظامية التي تُشكل تحدياً أمنياً واجتماعياً للولايات المتحدة.
  2.  استعادة الموقع القيادي عالميًا: إذ عكست هذه التصريحات رغبة ترامب في تدشين ولايته الثانية بخطوات مفصلية وجوهرية تهدف إلى إعادة فرض النفوذ والمكانة الدولية للولايات المتحدة، في محاولة للخروج من حالة التراجع الاستراتيجي التي ميّزت السياسة الخارجية الأميركية خلال العقد الأخير، والتي تميزت بسياسات فك الارتباط مع بعض المناطق الحيوية.
  3.  المواءمة على صفقات أكثر ربحية مع قراءة تحليلية لفلسفة دونالد ترامب التفاوضية من المرجح أن تنتمي هذه التصريحات إلى سياق “الضغط الأقصى”، الذي يعتمد عليه ترامب كأداة تفاوضية. فهو لا يسعى بالضرورة إلى ضم كندا بشكل فعلي، بل يهدف إلى تحسين شروط التفاوض مع هذه الأطراف من خلال الضغط العلني والمباشر. وبالنظر إلى تشكيكه في جدوى التحالفات المتعددة الأطراف، فإنه يفضل المقاربة الثنائية، ويسعى إلى مناورات فردية تضمن للولايات المتحدة اتفاقيات تصب في مصلحتها، فيما يتعلق بإعادة تشكيل العلاقات التجارية والأمنية مع كندا.

لكن في المقابل، يرى عدد من المحللين أن هذا التوجه قد يأتي بنتائج عكسية، إذ قد يدفع بعض دول المنطقة، التي تشعر بالقلق من السياسات التوسعية الأميركية، إلى تعزيز علاقاتها مع خصوم واشنطن مثل الصين وروسيا وإيران، بل وقد يصل الأمر إلى إعادة النظر في عضويتها داخل منظمة الدول الأميركية، مما يهدد بتقويض أحد الأعمدة المؤسسية التي تجمع أغلب دول نصف الكرة الغربي.

وفي هذا الاطار، انتهج ترامب في فرض هذا النهج عدة أدوات، تبايبنت في طبيتعها علي النحو الآتي:    

الطموح التوسعي الأمريكي بصيغة اقتصادية أعاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب طرح خطاب الهيمنة الجغرافية للولايات المتحدة، ولكن هذه المرة من بوابة الأدوات الاقتصادية لا العسكرية، حين صرّح بأن “العديد من الكنديين يرجحون فكرة أن تصبح كندا الولاية رقم 51”، في إشارة إلى إمكانية ضمها للاتحاد الأميركي باستخدام أدوات الضغط الاقتصادي.

ورغم أن هذه التصريحات لم تُقابل بجدية رسمية، فإنها تنطوي على أبعاد استفزازية تهدف إلى ممارسة الضغط على الحكومة الكندية لقبول ترتيبات جديدة تتعلق بتصحيح الخلل القائم في العلاقات التجارية بين البلدين،  وبالتالي فهي تُفسّر ضمن سياسة ترامب التصادمية، التي تقوم على تصعيد المطالب إلى أقصى درجاتها بهدف تحقيق تنازلات تدريجية من الطرف الآخر، لاسيما فيما يتعلق بإعادة صياغة العلاقات الاقتصادية.

 التهكم السياسي واستثمار اللحظة الإعلامية لم يتوانَ ترامب عن استغلال التغيرات السياسية في كندا، وعلى رأسها إعلان رئيس الوزراء جاستن ترودو استقالته، لتصعيد نبرته التهكمية تجاه أوتاوا. فقد وصف ترودو في أكثر من مناسبة بلقب “الحاكم”، وهو توصيف يُطلق على مسؤولي الولايات الأميركية، في محاولة ضمنية لانتزاع الاعتراف بموقع كندا التبعي ضمن الرؤية الترامبية للهيمنة الإقليمية.

وينظر إلي هذه التصريحات في إطار رغبة ترامب في توظيف اللحظة إعلاميًا، وبث رسائل للداخل الأميركي مفادها أن إدارته قادرة على فرض سياساتها علي الدول المجاورة، وتحقيق مكتسبات اقتصادية جديدة عبر تصعيد سياسي مدروس.

إعادة ضبط معادلة التجارة والأمن مع كندا أعلن ترامب عزمه فرض رسوم جمركية تصل إلى 25% على كندا فور توليه المنصب مجددًا، في حال لم تستجب أوتاوا لمطالب تتعلق بوقف تهريب المخدرات والمهاجرين غير النظاميين عبر الحدود. ويستند ترامب في هذا الطرح إلى قناعة ترى أن الولايات المتحدة تدفع ثمناً باهظاً لحماية كندا، دون أن تحصد مكاسب متناسبة، سواء من الناحية الأمنية أو التجارية.

ويسعى ترامب من خلال هذه المقاربة إلى فرض “اتفاق جديد” يُعزز من قدرة الولايات المتحدة على التحكم في مسارات التجارة عبر الحدود الشمالية، ويضعف من قدرة كندا على فرض شروطها التفاوضية.

لكن مراقبين حذروا من أن أي تحرك نحو ضم كندا – ولو نظرياً – قد ينقلب سلباً على الحزب الجمهوري، نظراً لأن كندا تميل سياسياً إلى توجهات الحزب الديمقراطي، وقد يؤدي إدماجها في النظام الأميركي إلى تغيير موازين القوى داخل الكونغرس والمجمع الانتخابي، على غرار ما تمثله ولاية كاليفورنيا اليوم.

ومع ذلك، يحذر خبراء من أن هذا التوجه قد يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث قد تدفع سياسات الإقصاء والهيمنة دول المنطقة إلى التقارب مع خصوم واشنطن، أو حتى الانسحاب من مؤسسات إقليمية كمنظمة الدول الأميركية، ما يهدد بتراجع الهيمنة الأميركية في مجالها الجغرافي التقليدي.

رابعًا: مالآت العلاقات الأميركية الكندية:

علي خلفية لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب برئيس الوزراء الكندي مارك كارني في البيت الأبيض 6 مايو 2025، والذي اتسم بالتوتر الملحوظ بعد إعادة طرح تصريحات مثيرة من قبل ترامب التي اقترح فيها “ضم كندا” كولاية أميركية، وهو ما رفضه كارني بقوة مؤكداً أن “كندا ليست للبيع”. كما برزت الخلافات التجارية خلال اللقاء، حيث أعاد ترامب طرح مسألة فرض رسوم جمركية على الواردات الكندية، في حين دعا كارني إلى إعادة التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة (USMCA) بشكل يراعي مصالح كندا ويضمن شراكة متوازنة.

في ضوء هذه التطورات، من المرجّح أن تتجه العلاقات بين الولايات المتحدة وكندا نحو مزيد من الفتور، خاصة إذا استمر ترامب في تبنّي خطاب يثير الحساسية السيادية الكندية، ويصعّد من المطالب الاقتصادية. ومع اقتراب قمة G7 المرتقبة في كندا، والتي قد تشكل اختباراً حاسماً لمستقبل العلاقات الثنائية، حيث ستكون أمام كارني فرصة لحشد دعم الحلفاء لمواجهة الضغوط الأميركية، بينما قد يستخدم ترامب المنبر الدولي لتوسيع نفوذه التفاوضي وفرض أجندته التجارية

ختامًا, في ضوء ما سبق، يمكن القول إن الأطماع الأميركية في كندا حتي وإن بدت غير واقعية أو مبالغًا فيها ؛ إلا أنها تعبّر عن توجه استراتيجي مستتر قائم على الرغبة في تأمين الموارد، والتحكم في الفضاء الجغرافي والسياسي لأميركا الشمالية، والحيلولة دون نشوء أي قوة مستقلة على حدود الولايات المتحدة

وإذا كانت فكرة الضم المباشر غير مطروحة جديًا في الوقت الراهن، فإن أشكالًا أخرى من السيطرة والتأثير من خلال الاقتصاد، والتحالفات الأمنية، والشركات متعددة الجنسيات – لا تزال تمثل الوجه الأحدث لهذه الأطماع، ما يفرض على كندا تحديات مستمرة في الحفاظ على استقلالها الاستراتيجي وهويتها الوطنية في عالم يتجه نحو مزيد من الاستقطاب.

المراجع والمصادر

  • Michael Froman, “What’s the Matter With Canada?”, Council on Foreign Relations, April 2025. 
  • Canada: Background and U.S. Relations, Congressional Research Service, Report R47620, February 2025. 
  • Courts Must Be Ready to Resist U.S. Annexation,” Policy Options, March 2025. 
  • Safeguarding Sovereignty: Canada’s Strategic Responses to Trump’s America, the institute for Peace & Diplomacy, January 2025. 
  • How to Save Canada, Centre for International Governance Innovation (CIGI), April 2025. 
  • Why Trump Wants Greenland and Canada: Strategic and Economic Goals, Forbes, January 2025. 
  • Is Donald Trump Serious About Annexing Canada, Financial Times, March 2025. 
  • As Canadians Go to Polls, Trump Keeps Banging on Annexation, Responsible Statecraft, April 2025. 

مراجع باللغة العربية

  • نظرة على تاريخ العلاقة بين الولايات المتحدة وكندا بعد تصريحات ترامب”، الجزيرة نت، يناير 2025. 
  • “ما وراء التهديد: هل تنجح القوة الاقتصادية في جعل كندا الولاية الـ51؟”، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية (ECSS)، فبراير 2025.  “لماذا يدعو ترامب لضم كندا وبنما وغرينلاند؟”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، يناير 2025. 
  • ترامب يتحدث مجددًا عن ضم كندا في وقت يواجه فيه ترودو أزمة سياسية”، مونت كارلو الدولية، ديسمبر 2024 
  • “هل سيتم ضم كندا إلى الولايات المتحدة؟”، مسبار، مارس 2025. 

[i] تقرير الكونجرس حول العلاقات الأميركية الكندية مايو ٢٠٢٥

https://www.congress.gov/crs_external_products/IF/PDF/IF12595/IF12595.20.pdf

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى