الدراسات الافريقية

بين معركة البقاء وسؤال الهُويّة.. قراءة في كتاب ” مِحْنَة الكاتب الإفريقي”

إعداد: نِهاد محمود -باحثة متخصصة في الشئون الإفريقية – عضو مجموعة عمل الدراسات الإفريقية بالمركز.

في مُقدمة كتاب “مِحْنَة الكاتب الإفريقي”، يسرد تشارلز لارسون تجربته مع الأدب الإفريقي، والتي تعود إلى عام 1962 حين كان متطوعًا للتدريس في نيجيريا. هناك، اكتشف عالمًا أدبيًا جديدًا عبر قراءته لروايات مثل “شريب نبيذ النخيل” لـ آموس تيوتولا و”الأشياء تتداعى” لـ تشينو أتشيبي، وهو عالم أدبي لم يكن قد صادفه من قبل في قراءاته السابقة للأدب الإنجليزي خلال سنوات دراسته.

  دفعت هذه التجربة لارسون -مؤلف هذا الكتاب والباحث الأميركي الكبير- إلى تكريس حياته لاحقًا لدراسة الأدب الإفريقي رغم صعوبات بالأوساط الأكاديمية والنشر في الغرب، التي كانت تركز بشدة على الأدب الغربي وتشكك في جدارة الأدب الإفريقي بالدراسة والاهتمام. استغرق الأمر سنوات من المثابرة حتى بدأ الاعتراف بالأدب الإفريقي، وإن ظلت التحديات قائمة حتى بعد حصول العديد من الكُتّاب الأفارقة على جوائز كبرى.

من هنا تأتي أهمية الكتاب الذي يركز على أهمية الأدب الإفريقي، وفي الوقت ذاته يركز على المعوقات التي تواجه الكُتَّاب الأفارقة، بدءًا من غياب الجمهور بسبب معدلات الأمية المرتفعة حينها، لا سيما خلال الفترة التي تلت استقلال دول إفريقيا جنوب الصحراء، مرورًا بارتفاع أسعار الكتب ونقص دُور النشر والتوزيع، وحتى الرقابة المتشددة من النظم السياسية الحاكمة، وما يتعرض له الكُتاب حال تم النشر، سواء بالتهديد بالسجن أو النفي. من هذا المنطلق، يطرح لارسون فرضية مفادها أن الكتابة في إفريقيا تظل عملًا بطوليًا محفوفًا بالمخاطر، وأن مرور أكثر من نصف قرن على الاستقلال لم يكن كفيلًا بتبديد التعقيدات الشديدة التي مازال الكُتَّاب يعانونها.

الكتابة في عالم الهيمنة الغربية:

يركز الكاتب هنا على بدايات الكتابة القصصية والروائية في إفريقيا جنوب الصحراء، متناولًا أهمية الكلمة المكتوبة بالنسبة للشعوب الإفريقية. فقبل دخول الاستعمار، كانت ثقافات إفريقيا الشفوية مزدهرة، حيث كانت تُنقَل الحكايات والملاحم والأمثال عبر الأجيال شفويًا. مع قدوم الاستعمار، بدأت الكتابة باللغات الأوروبية تظهر كأداة جديدة للتعبير، مما خلق فجوة بين الثقافة الشفوية الأصلية والثقافة المكتوبة المفروضة.

يوضح لارسون هنا أن اللحظة التي بدأ فيها الأفارقة يستخدمون الكلمة المكتوبة بأيديهم كانت لحظة تحرر فني وسياسي، لكنها أيضًا لحظة معقدة. فالكاتب الإفريقي وجد نفسه يكتب بلغة الآخر، متوجها لجمهور مختلف عن جمهوره الطبيعي. كان عليه أن يتعلم كيف يستخدم الكلمة المكتوبة لتدوين عوالمه الخاصة، وأن يبتكر شكله الأدبي الخاص، الذي لا يخضع بالضرورة للمعايير الأوروبية، لكنه أيضًا يسعى لإثبات نفسه ضمن هذا السياق الجديد.

من جانب آخر، يركز لارسون على معاناة الكُتّاب الأفارقة مع النشر، مشيرًا إلى أن كثيرًا من الأعمال المبكرة للأدب الإفريقي لم تجد طريقها إلى القراء إلا عبر دور نشر أوروبية أو أمريكية، مما جعل الكاتب الإفريقي تابعًا للذوق الغربي -إلى حدٍّ ما، ومرهونًا بإعجاب الآخر أكثر مما هو موجه لصالح مجتمعه المحلي. وفي هذا الإطار، يسرد لنا معاناة العديد من الكُتاب الذين لم يجدوا ناشرين محليين، واضطروا إلى التعامل مع مؤسسات نشر غربية تهتم بما يلائم تصوراتها عن إفريقيا أكثر مما تهتم بأصالة التجربة الإفريقية ذاتها.

على هذا النحو، يواصل لارسون بناء فكرته الأساسية عن “محنة الكاتب الإفريقي”، ليس باعتبارها تحديات مادية فحسب، وإنما بوصفها أزمة ثقافية وأخلاقية كبرى، ويضيف متسائلاً: كيف يمكن أن يكتب الكاتب الإفريقي لأمته دون أن يُستلب صوته بفعل الاستعمار الثقافي الجديد؟ وكيف يحافظ على صدقه في ظل واقع سياسي واجتماعي يقمع الكلمة الحرة؟

هشاشة النشر المحلي.. واغتراب الكاتب عن قارئه الطبيعي:

بعد استعراض أزمة اللغة والنشر التي قيّدت الكاتب الإفريقي في علاقته بالمؤسسات الغربية، ينتقل لارسون إلى تناول الإشكالية الأكثر حدة، وهي مسألة النشر المحلي في إفريقيا. وفي هذا الإطار يقول إنه رغم ما شهدته السنوات التالية للاستقلال من بروز عدد من دُور النشر الوطنية، إلا أن هذه المؤسسات الوليدة عانت من هشاشة واضحة في البنية التحتية وضعف التمويل ومحدودية القدرة على التوزيع، ما جعلها عاجزة عن احتضان الأدب الإفريقي واستيعابه بشكل حقيقي.

لقد وجد الكاتب الإفريقي نفسه في وضع لا يحسد عليه؛ حيث أصبح بين مطرقة الرقابة الحكومية المحلية، وسندان الاحتكار الثقافي الغربي، حيث يفرض الناشرون الأجانب شروطهم الشكلية والإيديولوجية أحيانًا لقبول نشر الأعمال.

من هنا يشير المؤلف والباحث الأميركي إلى أن غياب صناعة نشر قوية محلية كان له آثار مدمرة على تطور الأدب الإفريقي؛ فقد أصبح الكتاب عملة نادرة ومرتفعة الثمن، وفي قارة يعاني عدد كبير منهم من الأمية، كان الوصول إلى القارئ المحلي حلمًا صعب التحقيق. كما لم يكن الأمر يقتصر على مشاكل النشر فحسب، بل امتد إلى غياب شبكات توزيع فعالة، حيث كانت الكتب تصل إلى العواصم بالكاد، بينما تظل بقية البلاد محرومة منها تمامًا. لذا يعبر الكتاب عن واقع الكاتب الإفريقي بوصفه إنسانًا يسير فوق حقل ألغام، فكل خطوة نحو التعبير الأصيل محفوفة بخطر التهميش أو سوء الفهم، وكل محاولة لنشر صوته قد تصطدم بجدار الإقصاء الثقافي أو القمع السياسي.

الكلمة في زمن القمع:

بعد أن رسم لارسون صورة المِحْنَة التي يعانيها الكاتب الإفريقي في علاقته بالنشر والقرّاء، يتجه إلى معالجة جانب لا يقل خطورة، وهو الرقابة السياسية التي تمارسها السلطات الحاكمة على الكلمة الحرة. يشير لارسون إلى أن معظم الدول الإفريقية التي حصلت على استقلالها السياسي في منتصف القرن العشرين، سرعان ما انجرفت إلى أنظمة حكم تسلطية، أفرزت أجواء خانقة لأي تعبير معارض.

في سياقات كهذه، أصبح الكاتب الإفريقي مهددًا ليس فقط بالتجاهل والنسيان، بل بالقمع المباشر، بالسجن أو النفي أو الاغتيال المعنوي عبر تشويه سمعته وتضييق كافة المنافذ عليه. يضرب لارسون أمثلة عديدة لكتاب أفارقة عانوا من اضطهاد صريح بسبب جرأتهم في نقد الأنظمة -مثل الكاتب المسرحي والروائي المالاوي ستيف شيمومبو- مشيرًا إلى أن المثقف الإفريقي كثيرًا ما يجد نفسه عدوًا للدولة، حتى لو كان هدفه الحقيقي هو الدفاع عن كرامة الإفريقي وقيم العدالة والحرية.

في الختام، ورغم ما تناولَه الكتاب من صعوبات وتحديات عميقة تُثقل كاهل الكاتب الإفريقي، لا يختتم لارسون عمله بروح تشاؤمية، بل على العكس، يفتح نافذة أمل عريضة، مشددًا على أن الأدب الإفريقي، بكل ما مرّ به من مِحَن، أثبت قدرة مدهشة على البقاء والتجدد. فجيل الكتاب الجدد، من نيجيريا إلى كينيا مرورًا بجنوب إفريقيا، نهض بالإبداع في وجه القمع، مُستلهمًا إرث الروّاد، ولكن بلغة أكثر حداثة وحساسية لعالم اليوم. وأخيرًا، يرى لارسون أن بروز جوائز أدبية إفريقية، وتنامي مشروعات النشر المحلي، جنبًا إلى جنب مع تحسّن تدريجي في مستويات التعليم، تُشَكِّل جميعها مؤشرات واعدة على أن الكاتب الإفريقي يسير بثبات نحو فضاء أرحب من الحرية والتمكين، تكتسب فيه الكلمة قوتها ومكانتها المُستحقة.

……………………………………………………………………………………..

مصدر الكتاب:

تشارلز ر. لارسون، طلعت الشايب (مترجم)، مِحْنَة الكاتب الإفريقي، (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2023).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى