الدراسات الافريقية

تحالفات البحر الأحمر الإفريقية: فرص التكامل ودور مصر المحوري

إعداد: رامي زهدي – خبير الشؤون الإفريقية عضو الهيئة الاستشارية للدراسات الإفريقية.

مقدمة

لطالما شكّل البحر الأحمر أحد أبرز الشرايين البحرية الاستراتيجية في العالم، بما يتجاوز كونه معبرًا للتجارة، إلى كونه مسرحًا لمعادلات أمنية معقّدة وتقاطعات سياسية بين قوى إقليمية ودولية تتزاحم على النفوذ. ووسط هذا الزخم، تبرز حقيقة مفادها أن الدول الإفريقية المطلة على هذا البحر لم تنل بعد حقها من التأثير في قرارات إدارة هذا الفضاء الحيوي، سواء في المجال الأمني أو التنموي.

ورغم أن خمس دول إفريقية (مصر، السودان، إريتريا، جيبوتي، الصومال) تمتد سواحلها على البحر الأحمر، فإن أدوارها في صياغة السياسات المتعلقة به ما تزال غير متكافئة مع أهميته لمصالحها القومية. في المقابل، تشهد المنطقة حضورًا متصاعدًا لقوى إقليمية مثل السعودية والإمارات، ودول كبرى كالصين وأمريكا وتركيا وفرنسا، عبر قواعد عسكرية واستثمارات ضخمة.

في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تأسيس تحالف إفريقي ساحلي يُعيد التوازن، ويعزز من استقلال القرار الإفريقي، ويضع مصر في موقعها الطبيعي كقاطرة لهذا المشروع، بما تملكه من مقومات عسكرية واقتصادية ودبلوماسية فريدة.

أولًا: البحر الأحمر في الاستراتيجية الإفريقية

  1. الأهمية الجغرافية والاقتصادية

يبلغ طول البحر الأحمر حوالي 2,250 كم، ويصل عرضه الأقصى إلى 355 كم.

يُعد أحد أكثر الممرات المائية ازدحامًا في العالم، حيث تمر به نحو 12% من التجارة العالمية، وتقدّر حركة المرور اليومية عبره بأكثر من 55 سفينة، منها نسبة كبيرة تعبر عبر باب المندب ثم قناة السويس.

تشير إحصائيات هيئة قناة السويس لعام 2023 إلى عبور ما يزيد عن 23,000 سفينة، بحمولة تجاوزت 1.5 مليار طن.

أكثر من 40% من صادرات وواردات دول شرق إفريقيا تمر عبر موانئ البحر الأحمر، خاصة جيبوتي وبورتسودان ومقديشو.

  1. أبعاد الأمن القومي

تمثل المياه الإقليمية للبحر الأحمر خط الدفاع الأول لمصر والسودان، خاصة في ظل تصاعد التهديدات المرتبطة بتهريب الأسلحة، وتدفقات الهجرة غير الشرعية، والقرصنة البحرية.

تتقاطع المصالح في باب المندب مع خطوط إمداد الطاقة الخليجية نحو أوروبا، ما يجعل استقرار المنطقة قضية أمن دولي، وليس إقليمي فقط.

  1. الموارد البحرية والإمكانات غير المستغلة

تقدر الثروة السمكية القابلة للاستغلال في البحر الأحمر بأكثر من 100,000 طن سنويًا، إلا أن نسبة استغلالها لا تتجاوز 35% حاليًا.

توجد إمكانات هائلة لإنشاء مناطق صناعية ولوجستية وموانئ حرة على غرار التجارب الناجحة في آسيا.

تعد المنطقة مؤهلة لتكون نقطة ارتكاز لمشروعات الاقتصاد الأزرق، بما يشمل السياحة البيئية، الطاقة المتجددة البحرية، وتربية الأحياء المائية.

ثانيًا: التحديات أمام التكامل الإفريقي في البحر الأحمر

  1. التحديات السياسية

تباين النظم السياسية: السودان يعيش حالة انتقال مرتبكة، إريتريا ذات نظام مغلق، الصومال تعاني هشاشة مؤسساتية.

تعدد التحالفات الخارجية: تميل بعض الدول إلى محاور إقليمية متضادة (إيران – الخليج / تركيا – الإمارات – أسرائيل)، مما يعقّد من إمكانية تنسيق مشترك.

  1. التحديات الأمنية

وجود بؤر توتر: الحرب في السودان (منذ أبريل 2023) خلّفت أكثر من 13,000 قتيل، وأكثر من 9 ملايين نازح، وتأثيرها امتد إلى أمن البحر الأحمر.

القرصنة البحرية: رغم انخفاض معدلاتها مقارنة بعقد مضى، إلا أن تقارير المنظمة البحرية الدولية (IMO) لعام 2023 سجلت 21 حادثة قرصنة على امتداد الساحل الصومالي.

القواعد العسكرية الأجنبية: هناك أكثر من 13 قاعدة عسكرية أجنبية في جيبوتي وإريتريا فقط، أبرزها أمريكية وصينية وفرنسية وتركية، مما يقلّص هامش القرار السيادي المحلي.

  1. التحديات الاقتصادية

ضعف البنية التحتية العابرة للحدود: لا توجد شبكات سكك حديدية أو طرق برية تربط موانئ البحر الأحمر الإفريقية ببعضها البعض، باستثناء محاولات الربط بين مصر والسودان.

غياب التمويل الإفريقي: تمثل نسبة مساهمة الدول الإفريقية المطلة على البحر الأحمر في تمويل مشروعات الموانئ أقل من 15% من إجمالي التمويل في السنوات الخمس الأخيرة، وفق بيانات UNECA.

الاعتماد على الفاعلين غير الأفارقة: أكثر من 70% من عقود تشغيل الموانئ الكبرى في المنطقة تُدار عبر شركات أجنبية، بما في ذلك شركات إماراتية وصينية.

ثالثًا: فرص التكامل والتحالف الإفريقي في البحر الأحمر

  1. تحالف إفريقي ساحلي متعدد الأبعاد

الهوية البحرية المشتركة: يمكن التأسيس لميثاق إفريقي ساحلي، يستند إلى وحدة المصير البحري المشترك، على غرار “إعلان نيروبي للمحيط الهندي”.

التنسيق الأمني المشترك: إنشاء مركز معلومات استخباري بحري مقره جيبوتي أو القاهرة، يشمل رصد التهديدات وتبادل الإنذارات البحرية.

استراتيجية تنمية ساحلية موحدة “رؤية البحر الأحمر 2035”: تتضمن مشروعات في الطاقة، اللوجستيات، مصائد الأسماك، البنية الرقمية الساحلية.

بنك تمويل الساحل الأحمر: بالشراكة بين البنك الإفريقي للتنمية، وصندوق مصر السيادي، وصناديق خليجية مثل صندوق الاستثمارات العامة السعودي.

  1. الفرص الاستثمارية الواعدة

تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الاستثمار في تطوير الموانئ الإفريقية بالبحر الأحمر يمكن أن يرفع الناتج المحلي الإجمالي لتلك الدول بنسبة 1.5 – 2.2% سنويًا.

إمكانية مضاعفة حجم التجارة البينية بين الدول الخمس الإفريقية المطلة على البحر الأحمر، والتي لا تتجاوز حاليًا 8% من إجمالي تجارتها الخارجية.

رابعًا: الدور المصري المحوري

  1. عناصر القوة المصرية

الأسطول البحري: تحتل مصر المرتبة الأولى إفريقيًا والسادسة عالميًا من حيث عدد القطع البحرية (Global Firepower Index 2024).

قناة السويس: وفرت لمصر في عام 2023 إيرادات تجاوزت 9.4 مليار دولار، بزيادة 34% عن العام السابق، لكنها تاثرت في الأعوام 2024،2025 بشدة بسبب الحرب في الشرق الأوسط.

المنطقة الاقتصادية لقناة السويس: تستوعب استثمارات بأكثر من 18 مليار دولار، وتعد نموذجًا قابلًا للتكرار في دول إفريقية مثل جيبوتي وإريتريا.

القوة الدبلوماسية: تربط مصر علاقات شراكة استراتيجية مع السودان وجيبوتي وإريتريا، وأُعيد افتتاح السفارة المصرية في الصومال منذ 2022 وتم توقيع اتفاقيات تعاون عسكري مصرية مع معظم دول منطقة القرن الإفريقي، في مؤشر على تعزيز الحضور.

  1. المبادرات المصرية المقترحة

إطلاق منتدى “أمن وتنمية البحر الأحمر الإفريقي”، تستضيفه القاهرة سنويًا.

توقيع مذكرات تفاهم ثلاثية لتطوير موانئ ومراكز لوجستية بين مصر ودول إفريقية وشركاء دوليين.

تقديم منح دراسية وتدريب بحري عبر الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا لـ500 شاب سنويًا من الدول الإفريقية الساحلية.

التوسع في خطوط الشحن البحري بين مصر وشرق إفريقيا، خاصة عبر موانئ السخنة وبرنيس وبورتسودان.

خامسًا: التوصيات الإستراتيجية

  1. تأسيس “التحالف الإفريقي الساحلي للبحر الأحمر” بقيادة مصر، على أسس تنموية وأمنية.
  2. إعداد دراسات جدوى شاملة لـ10 مشروعات في الموانئ، مصائد الأسماك، والطاقة الشمسية البحرية.
  3. تمويل مشترك عربي–إفريقي بمساهمة من 10 دول عربية إفريقية (مثل السودان، جيبوتي، الصومال، الجزائر، تونس، ليبيا…) واخري 12 دولة عربية اسيوية لتعزيز الاستثمارات الساحلية.،
  4. إنشاء مركز إفريقي لمراقبة التحركات البحرية والعسكرية الأجنبية، بالتعاون مع الاتحاد الإفريقي.
  5. تعزيز دور المجتمع المدني والمراكز البحثية في صياغة الرؤى والسياسات البحرية الإفريقية.

خاتمة

إن مستقبل البحر الأحمر لا ينبغي أن يُصاغ فقط على موائد القوى العالمية، بل على أيدي الدول الإفريقية المطلة عليه. إن تشكيل تحالف إفريقي ساحلي ليس ترفًا جيوسياسيًا، بل ضرورة استراتيجية لتعزيز الأمن، وخلق فرص التنمية، وتحقيق السيادة البحرية. في هذا السياق، تمتلك مصر، بتاريخها البحري، ومواردها الاقتصادية، ووزنها الدبلوماسي، القدرة على قيادة هذا المشروع، وجعله أحد أهم روافع القارة نحو الاستقلال الاستراتيجي.

المراجع

1.Global Firepower Index 2024 – Naval Strength Rankings.

2.African Union Commission Reports on Maritime Security (2022–2023).

3.تقارير البنك الإفريقي للتنمية حول الاقتصاد الأزرق في إفريقيا – 2021.

    4. قناة السويس: بيانات هيئة قناة السويس السنوية – 2023.

    5. تقارير المؤسسة الدولية للنقل البحري (IMO) – 2023.

    6. وزارة الخارجية المصرية – المبادرات الإفريقية في البحر الأحمر (2020–2024)

    7. دراسات مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية حول أمن البحر الأحمر – 2022.

    8. بيانات الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا – قطاع النقل البحري – 2023.

    9. تقارير اللجنة الاقتصادية لأفريقيا (UNECA) حول الموانئ والتكامل الساحلي – 2021.

    10. مقابلات وخطابات رسمية لمسؤولي الدول الإفريقية المشاطئة للبحر الأحمر (2020–2024)

        مقالات ذات صلة

        زر الذهاب إلى الأعلى