الدراسات الافريقية

عرض كتاب “حفظ السلام الإفريقي”

إعداد: د. آيات عبد العزيز – مدير البحوث والدراسات بالمركز.

تشهد القارة الإفريقية العديد من التحديات التي تهدد أمنها  وسلامتها، بما في ذلك التطرف العنيف، الإرهاب ، النزاعات المسلحة، والتغير المناخي. في ظل هذه الظروف المعقدة، تبرز جهود حفظ السلام كأداة حيوية للتعامل مع تلك التحديات التي تقف عائقا امام سعي الدول الإفريقية إلى تحقيق الاستقرار والسلام المستدام. في هذا السياق، يبرز كتاب ” حفظ السلام الإفريقي” كمرجع هام لفهم دور عمليات السلام في القارة الإفريقية ودورها في تشكيل ماضيها، حاضرها ومستقبلها، وذلك من خلال تقديمه تحليلا شاملا للطبيعة المعقدة لتلك العمليات. و يقوم جوناثان فيشر ونينا فيلن باستكشاف أدوار الفاعلين الوطنيين والدوليين في منظومة حفظ السلام، إضافة إلى تأثير التحولات والتطورات الدولية على هيكل عملها واختصاصها عبر الزمن.  يحتل أهمية خاصة في ضوء التحديات الراهنة التي تواجه بعثات حفظ السلام في إفريقيا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تعقد النزاعات المسلحة، محدودية الموارد المتاحة لعمل المنظومة والاختلافات الثقافية والسياسية بين الأطراف المعنية. 

مما تقدم، يهدف هذا العرض إلى تسليط الضوء على الموضوعات الرئيسية التي شملها كتاب ” حفظ السلام الأفريقي” ، مع استعراض هيكله ومحتواه، بالإضافة إلى بيان ما يميزه، وأوجه النقد التي يمكن توجيهها إليه.

حفظ السلام الإفريقي: الأفكار الرئيسية

  1. يتناول هذا الكتاب التاريخ والسياسة الإفريقية المعاصرة من منظور حفظ السلام، حيث يسلط الضوء على تطور مشاركة الدول الإفريقية في عمليات حفظ السلام، والانعكاسات المترتبة على ذلك، خاصة فيما يتعلق بصياغة وتطوير السياسات الخارجية والأمنية على المستويين الوطني والإقليمي. كما يعيد النظر في الفهم التقليدي لحفظ السلام في إفريقيا، من خلال استكشاف الروابط بين هذه العمليات والإرث الاستعماري والتطور العسكري للدول الإفريقية، وصولًا إلى بناء الدولة الحديثة.
  2. في هذا السياق، يركز الكتاب حصريًّا على دراسة عمليات حفظ السلام التي نفذها الأفارقة أنفسهم، ويجادل بأن المنشور عن تلك الأدبيات المتعلقة بهذه العمليات شديد الندرة إذا ما قورن بما هو منشور عن الدراسات التي تناولت حفظ السلام في إفريقيا بوجه عام. يشير الكتاب إلى أن الدول الإفريقية تشكل النسبة الأكبر من المساهمين في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام عالميًّا. كما يناقش كيف أدى تبني مبدأ “الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية” خلال التسعينيات إلى تنامي دور القوات الإفريقية في حفظ السلام، مدعومًا برغبة القوى الغربية في تجنب المخاطر الميدانية، خاصة بعد تجربة القوات الأمريكية في الصومال. وهكذا، لا يقتصر النقاش على حفظ السلام في إفريقيا، بل يتعداه إلى حفظ السلام بواسطة الأفارقة أنفسهم.
  3. علاوة على ذلك، يوضح الكتاب كيف ساهمت مشاركة الجنود الأفارقة في عمليات حفظ السلام في تعزيز عملية بناء الدولة في إفريقيا. ويشير إلى أن حفظ السلام قد جذب العديد من الدول الإفريقية لما يوفره من موارد عينية ومادية للجيوش، فضلًا عن تمكينهم من تعزيز سيطرتهم السياسية على الضباط، إلى جانب تحقيق مكاسب دبلوماسية كبيرة.
  4. كما يحاول الكتاب سبر أغوار الدوافع الحقيقية وراء اهتمام بعض الدول الإفريقية بالمشاركة في عمليات حفظ السلام، ولا سيما الدول التي خرجت من صراعات. ويسعى إلى فهم المفارقة المتمثلة في كون بعض هذه الدول مستضيفة لبعثات حفظ السلام، وفي الوقت نفسه مساهِمة بقوات في هذه العمليات.

الحجج المركزية

تم تأطير الكتاب حول حجتين مركزيتين:

الحجة الأولى: تأكيد الكتاب على ضرورة فهم تأثير الموروثات التاريخية والمشروع الاستعماري الأوروبي في تشكيل عمليات حفظ السلام الإفريقية. إذ يؤكد أن التجربة الاستعمارية والإرث التاريخي قد لعبا دورًا جوهريًّا في تحديد ملامح عمليات حفظ السلام.

الحجة الثانية: يجادل الكتاب بأن عمليات حفظ السلام لم تكن مجرد استجابة للأزمات، بل ساهمت بمرور الوقت في تشكيل السياسات الداخلية والخارجية لدول القارة. فلا ينبغي النظر إلى حفظ السلام في إفريقيا كنشاط معزول، بل كـ”مجموعة من الممارسات الاجتماعية والسياسية التي تشكل جزءًا من مفاوضات تاريخية أوسع نطاقًا، وتعمل على توسيع، وإعادة هيكلة، وإعادة/إنشاء استقلال الدولة الإفريقية بمرور الوقت”.

الهيكل والمحتوى

يتكون الكتاب من سبعة فصول، يتناول كل منها جانبًا مختلفًا من جوانب حفظ السلام في إفريقيا.

  • الفصل الأول: تاريخ (ما قبل) وتطور حفظ السلام الإفريقي

يستعرض هذا الفصل تطور عمليات حفظ السلام الإفريقية عبر الزمن، مع التركيز على التحولات الجوهرية التي طرأت عليها. يبدأ بمناقشة النسخة التقليدية من عمليات حفظ السلام، والانتقال من مبدأ “عدم التدخل”، الذي تبنته منظمة الوَحدة الإفريقية، إلى مبدأ “عدم الاكتراث/الحياد”، الذي تبناه الاتحاد الإفريقي. يعزو الكتاب هذا التحول إلى الأحداث الكارثية التي شهدتها إفريقيا في التسعينيات، مثل الإبادة الجماعية في رواندا، وكذلك إلى تصاعد الاهتمام بمفهوم الأمن البشري كجزء من مفهوم الأمن الأوسع. كما يقدم لمحة موجزة عن الهيكل الإفريقي للسلم والأمن، موضحًا كيف عكست بنيته ومبادئه التغيرات التي طرأت على حفظ السلام. علاوة على ذلك، يسلط الفصل الضوء على تاريخ عمليات حفظ السلام الإفريقية، والصلات التي تربطها بالجيوش والقوات الاستعمارية التي كانت موجودة في إفريقيا في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مع دراسة حالة حول قوات الشرطة في غانا.

  • الفصل الثاني: وسائل جديدة للبقاء في السلطة – صيانة النظم من خلال حفظ السلام

بدلاً من التعامل مع حفظ السلام كظاهرة خارجية، يستكشف هذا الفصل كيف أصبحت عمليات حفظ السلام استراتيجية وآلية محورية لتوطيد السلطة السياسية والحفاظ على النظام في بعض الدول الإفريقية، خاصة في ظل الأنظمة الاستبدادية. تتيح عمليات حفظ السلام، التي غالبًا ما يتم تمويلها من قِبل المانحين الدوليين، فرصة للحكومات الإفريقية لتعزيز قدراتها الأمنية، حيث توفر موارد مالية إضافية، ورواتب، وبرامج تدريبية لقوات الأمن. يساعد ذلك الحكومات في ترسيخ مكانتها، وتحسين انضباط قواتها، وإضفاء طابع اجتماعي على التكاليف والمخصصات الأمنية المتزايدة. يستند الفصل إلى أمثلة من دول مثل أوغندا وبوروندي، حيث أصبحت عمليات حفظ السلام جزءًا شبه دائم من عملية بناء الدولة خلال العقود الأخيرة.

  • الفصل الثالث: من المحلي إلى العالمي

يستعرض هذا الفصل العَلاقة بين عمليات حفظ السلام الإفريقية والعَلاقات الدولية، موضِّحًا كيف تطورت هذه العمليات لتصبح محورًا في العَلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف. في أعقاب التدخلات الفاشلة للأمم المتحدة والولايات المتحدة في الصومال عام 1993، والإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، اتجهت القوى الغربية إلى تقليل تدخلها العسكري المباشر في القارة، مع الاعتماد المتزايد على الجيوش الإفريقية لحل المشكلات الإقليمية. علاوة على ذلك، يوضح الفصل كيف مكّن هذا التحول الحكومات الإفريقية من تعزيز مكانتها في الساحة الدولية من خلال تأمين الموارد و إفساح مجال أكبر للمناورة في علاقاتها (التي غالبًا ما تعتمد على المساعدات) مع الجهات الفاعلة الدولية. يجادل المؤلفان بأن لهذا التطور آثارًا عميقة على السياسة الداخلية في عدة دول، مثل إثيوبيا وتشاد.

  • الفصل الرابع: بناء هُوية جديدة لجنود / أو لحفظ  حفظ السلام

يبحث هذا الفصل في التفاعل الحاسم بين عمليات حفظ السلام الإفريقية وتطور الهويات الوطنية والإقليمية. يتناول تأثير هذه العمليات على تشكيل الهُوية الوطنية والإقليمية، حيث يرى المؤلفان أن ازدياد أهمية بعثات حفظ السلام الإفريقية منذ الثمانينيات ساهم في ترسيخ التكتلات والهويات الإقليمية، ولا سيما في غرب إفريقيا. إضافةً إلى ذلك، يشير الكتاب إلى أن هذه البعثات أوجدت مساحات للتنافس بين الدول وإعادة التفاوض حول الهويات الإقليمية. يستعرض المؤلفان حالة تنزانيا بشكل خاص في هذا السياق. كما يبرز الفصل كيف تم دمج عمليات حفظ السلام في بناء الهُوية الوطنية في مراحل ما بعد الصراع والتحرير، مع الإشارة إلى أمثلة من رواندا وجنوب إفريقيا، حيث اعتُبرت بعثات حفظ السلام رمزًا لمرحلة “رواندا ما بعد الإبادة” أو “جنوب إفريقيا الجديدة”، واعتُبرت قوات حفظ السلام تجسيدًا لتسوية سياسية جديدة، وإطارًا جديدًا للعلاقة بين الدولة والمجتمع.

  • الفصل الخامس: من حفظ السلام إلى حفظة السلام – حفظ السلام بعد انتهاء الصراع

يحلل هذا الفصل الاتجاه المتزايد للدول الإفريقية في مرحلة ما بعد الصراع المساهمة بقوات في عمليات حفظ السلام المتعددة الأطراف، ويركز على دراسات حالة تشمل بوروندي، ورواندا، وسيراليون، وجمهورية الكونغو الديمقراطية.  يرى المؤلف  أن المشاركة في هذه العمليات قد تُشكل وسيلة ناجعة لإصلاح وإعادة هيكلة وتوحيد جيوش ما بعد الصراع، حيث توفر المساعدات الدولية والتدريب المرتبط بعمليات حفظ السلام فرصة لتوحيد وبناء جيش أكثر مهنية، دون أن تضطر الحكومات إلى تخصيص ميزانيات ضخمة لهذا الغرض. علاوة على ذلك، فإن نشر القوات في الخارج قد يخفف من التوترات الداخلية، مما يسهل عملية الحكم، خاصة في دول ما بعد الصراع التي لا تزال تعاني من تبعات الصراع. يبحث المؤلفان أيضًا في بُعد الهوية لدول ما بعد الصراع التي تساهم بقوات في عمليات السلام. يمكن لقرار المساهمة بقوات أن يساعد الدول على تحويل هُوياتها من هُويات الدول الخارجة من الصراع إلى دول حفظ السلام. يمكن أن يكون لمثل هذا التحول عواقب مهمة على العلاقات مع كلٍّ من الفاعلين الداخليين والشركاء الدوليين.

  • الفصل السادس: ما هو “الإفريقي” في حفظ السلام الإفريقي؟

يستعرض هذا الفصل قضية تمويل عمليات حفظ السلام الأفريقية، حيث يُشير إلى أن معظمها يتم تمويله من الخارج، خصوصًا من الدول الغربية. يناقش الفصل كيف أن هذا التمويل يُثير تساؤلات حول ملكية هذه العمليات. من هذا المنطلق، يؤكد الكتاب أنه بعض بعثات حفظ السلام الإفريقية لم تكن لتتمكن من العمل دون الدعم اللوجستي وغيره من الدعم من خارج القارة. وقد أدى ذلك ببعض المعلقين إلى القول بأن عمليات حفظ السلام الإفريقية ليست في الواقع “مملوكة” لإفريقيا.

  • الفصل السابع: الخاتمة

يجمع هذا الفصل الموضوعات الرئيسية للكتاب، مشيرًا إلى كيف أصبح حفظ السلام جزءًا لا يتجزأ من التاريخ المعاصر والسياسة الإفريقية. كما يتناول مستقبل عمليات حفظ السلام، متطرقًا إلى ظهور “جيل جديد” من الدول الإفريقية الفاعلة في حفظ السلام منذ أوائل القرن الحادي والعشرين، وتأثير ذلك على مستقبل هذه العمليات ودورها في القارة.

دراسات الحالة

تثري دراسات الحالة المتنوعة التي يقدمها الكتاب محتواه، حيث توفر أمثلة واقعية لممارسات حفظ السلام في إفريقيا. يستعرض الكتاب حالاتٍ من دول مثل رواندا، وبوروندي، و سيراليون، وتشاد، مسلطًا الضوء على النجاحات والإخفاقات على حد سواء.  كما يكشف تحليل بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في إفريقيا عن الإمكانات والقيود التي تواجه التدخلات الدولية في إطار حفظ السلام. إضافة إلى ذلك، يناقش الكتاب كيف يمكن أن تؤدي جهود حفظ السلام أحيانًا إلى تفاقم التوترات أو الفشل في معالجة الأسباب الجذرية للصراع. ويُعد هذا النقد ضروريًّا لفهم الآثار الأوسع للمشاركة الدولية في عمليات السلام الإفريقية.

حفظ السلام الأفريقي: رؤية نقدية

يستند الكتاب في تحليله لظاهرة حفظ السلام إلى أكثر من عقد من البحث الميداني في عشر دول إفريقية، ما يجعله مرجعًا شاملًا لأي شخص مهتم بعمليات حفظ السلام المعاصرة، وخاصة أولئك الذين يسعون إلى فهم متقدم لديناميات حفظ السلام في إفريقيا. ولعل من أبرز نقاط قوته اعتماده على التحليل المقارن لكيفية مساهمة عمليات حفظ السلام الإفريقية في صنع السياسة الخارجية للدول الإفريقية.

بشكل عامٍّ، يحقق الكتاب توازنًا دقيقاً بين الوضوح والتعقيد، إذ يسلط الضوء على الموضوعات الرئيسية في مجال حفظ السلام من واقع دراسات الحالة، دون إغفال الفروق الدقيقة بين التجارب والخبرات الأفريقية المختلفة في هذا السياق، مما يجعله قراءة أساسية لكل من الباحثين الجدد والمتمرسين في مجال حفظ السلام والسياسة الإفريقية.

بالنسبة للقراء غير المطلعين على عمليات حفظ السلام الإفريقية، يوفر الكتاب مادة علمية دقيقة، مدعومة بحجة واضحة وأدلة تجريبية غنية. كما يقدم في نهاية كل فصل اقتراحات لقراءات إضافية مرتبة حسب الموضوع، مما يزيد من فائدته للمهتمين بتوسيع معرفتهم حول الموضوع. الجدير بالذكر أنه في سبتمبر 2022، اختارت مجلة Foreign Affairs كتاب “حفظ السلام الإفريقي” ضمن أفضل خمسة كتب في إطار الاحتفال باليوم العالمي للسلام.

رغم أهميته الكبيرة في مجال حفظ السلام، لم يسلم الكتاب من النقد. من أبرز الملاحظات الموجهة إليه أنه يحتوي على العديد من المصطلحات الأكاديمية المعقدة، مما قد يجعله كثيفًا في بعض المواضع وأقل سهولة في الفهم بالنسبة للجمهور العام.  علاوة على ذلك، انتقد الكتاب لعدم تحقيق التوزان المأمول في عرض حالات النجاحات والإخفاقات،حيث ركز  في بعض المحلات على الجوانب المضئية لتلك العمليات والتدخلات دون إيلاء اهتمام كافي بالتحديات المستمرة.  يضاف إلى ما تقدم، وجود بعض المشكلات المتعلقة بالتحليل المحدود والمنقوص لبعض حالات الدراسة، حيث اغفل الكتاب تغطية جوانبها المختلفة و مجمل العوامل السياقية المؤثرة عليها.

بيانات أساسية عن الكتاب

المؤلف: جوناثان فيشر ونينا فيلن

جوناثان فيشر: أستاذ الأمن العالمي بجامعة برمنغهام، و مؤلف كتاب شرق إفريقيا بعد التحرير: الصراع والأمن والدولة منذ الثمانينيات (2020). يركز بحثه على العَلاقات بين الاستبداد والأمن.

نينا فيلن: مديرة برنامج أفريقيا في معهد إيغمونت، وأستاذة مشاركة في العلوم السياسية بجامعة لوند. تركز أبحاثها على حفظ السلام والتدخلات العسكرية ودور النوع الاجتماعي.

الناشر: كامبريدج يونيفرسيتي بريس سنة النشر: 2022       

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى