من التصعيد إلى الاحتواء:قراءة استراتيجية في وقف المواجهة الهندية – الباكستانية

إعداد: ياسمين محمود حامد البوني – باحثة مشاركة.
في مطلع مايو 2025، تصاعدت التوترات مجددًا بين الهند وباكستان، في حلقة جديدة من مسلسل الأزمات الممتدة بين الجارتين النوويتين. جاء الحدث المفجّر على خلفية هجوم مسلح وقع في منطقة باهالجام السياحية في إقليم جامو وكشمير الخاضع لسيطرة الهند، وأسفر عن مقتل عدد من المدنيين والجنود. وردت الحكومة الهندية بضربة جوية محدودة استهدفت معسكرًا لمسلحين يُعتقد بارتباطهم بجماعة “جيش محمد” داخل الأراضي الباكستانية. في المقابل، ردّت إسلام آباد بإسقاط طائرتين هنديتين وأسرت أحد الطيارين، مما رفع منسوب التوتر إلى مستويات خطيرة.
إلا إن التصعيد ما لبث أن توقف في غضون أيام، في مشهد أثار دهشة الكثيرين ممن توقعوا انزلاقًا تدريجيًا نحو صدام مسلح واسع النطاق. فما الذي أوقف التصعيد؟ ولماذا لجأ الطرفان، برغم التصريحات النارية، إلى خيار التهدئة؟ وما الذي تكشفه هذه الأزمة عن طبيعة الصراع البنيوي بين الهند وباكستان؟ وما حدود الدور الدولي في ضبط هذه العلاقة المعقدة؟ هذه الورقة تسعى إلى تقديم إجابات تحليلية لهذه الأسئلة، من خلال مقاربة استراتيجية تدمج السياق التاريخي بالبنية الأمنية الراهنة
أولًا: الإطار البنيوي للعلاقة الهندية – الباكستانية
لُبّ النزاع بين الهند وباكستان ليس فقط في إقليم كشمير، بل في الرؤية المتباينة للدولة والهوية. الهند، ذات النظام الفيدرالي والديمقراطية متعددة الأعراق والأديان، ترى في كشمير جزءًا من “تعددها القومي”، بينما تنظر باكستان، التي تأسست على أساس ديني، إلى كشمير كامتداد طبيعي لهويتها الإسلامية. هذا التناقض الجوهري يجعل كشمير أكثر من مجرد خلاف إقليمي؛ إنها تجسيد لصراع وجودي. كما إن تاريخ الحروب الثلاث (1947، 1965، 1971) وساحة كارجيل 1999، رسّخا في العقل الاستراتيجي للطرفين منطق “التهديد الدائم”. ومع دخول السلاح النووي إلى المعادلة منذ أواخر التسعينيات، تشكّل ما يُعرف بـ”الردع غير المستقر”، فبينما يردع السلاح النووي الحرب الشاملة، فإنه لا يمنع تمامًا النزاعات المحدودة، بل يدفع بها إلى العمل تحت سقف التفجير الكامل.[1]
ثانيًا: لحظة التصعيد في مايو 2025: دوافع وتكتيكات
أ. الهجوم في باهالجام كعامل محفز
وقع الهجوم في لحظة حساسة للغاية. فالهند كانت تستعد لموسم انتخابي محلي في كشمير، وكانت حكومة مودي تحاول تقديم صورة الحزم في مواجهة “الإرهاب العابر للحدود”. الهجوم أثار ردود فعل شعبية وإعلامية مطالبة بالانتقام، مما وضع القيادة الهندية أمام خيار التصرف العسكري دون انتظار نتائج التحقيق أو الوساطات.[2]
ب. الضربة الجوية الهندية: بين الردع والعرض السياسي
نفذت الهند عملية عسكرية محدودة جوًا ضد معسكر تدّعي أنه تابع لمجموعة إرهابية. ورغم التشكيك في فاعلية الضربة من حيث الخسائر، فإن الرسالة كانت سياسية في المقام الأول: القدرة على تجاوز الخطوط التقليدية والرد في العمق. غير أن العملية لم تكن تصعيدًا مفتوحًا، بل محكومة بإدراك سقف الرد الباكستاني.[3]
ج. الرد الباكستاني المدروس
ردّت إسلام آباد بإسقاط طائرتين، وهو رد محسوب بعناية. فمن جهة، يعيد التوازن إلى صورة الردع، ومن جهة أخرى، لم يشمل ضربات داخل العمق الهندي المدني أو العسكري الواسع، بل حافظ على قواعد الاشتباك المحدودة. كما أن إظهار الأسرى، ثم تسليم الطيار لاحقًا، أوحى بالرغبة في وقف التصعيد دون التخلي عن الردع.[4]
ثالثًا: العوامل التي أوقفت التصعيد
- الردع النووي والعقلانية الباردة
بالرغم من التصريحات القومية النارية من الطرفين، كان صانعو القرار العسكري يدركون عتبة المخاطر. فالردع النووي هنا لا يعمل بالتهديد فقط، بل بوجود “تصور داخلي مشترك” بأن الحرب ليست خيارًا قابلًا للضبط أو القصر. امتلاك الطرفين لما يُعرف بـ”الضربة الثانية” (second strike capability) يجعل أي مغامرة تصعيدية تهديدًا وجوديًا، وليس مجرد مناورة سياسية[5].
- التكلفة الاقتصادية لأي تصعيد
الهند وباكستان كلاهما يعانيان من ضغوط اقتصادية ضخمة: عجز في الموازنات، بطالة، ضعف في الاستثمارات الخارجية. بمعنى إن أي صراع واسع يعني انسحاب رؤوس الأموال، ووقف التعاون التجاري، وتراجع العملات. خاصة للهند التي تسعى للعب دور اقتصادي عالمي وتحسين تصنيفها الائتماني، فإن الانزلاق لحرب كان سيُعد انتحارًا سياسيًا واقتصاديًا.
- الضغط الدولي المركّب
تدخلت قوى دولية على مستويات متعددة. واشنطن مارست ضغطًا فوريًا على الجانبين لضبط النفس. في حين فتحت الصين قنوات مباشرة مع إسلام آباد لتحذيرها من خطورة التصعيد. الدول الخليجية –لا سيما السعودية وقطر– لعبت دورًا خلف الكواليس للوساطة، مستفيدة من علاقاتها القوية مع القيادتين، وقدمت ضمانات معينة لكل طرف مقابل وقف التدهور[6].
- الإعلام وتكتيك إدارة الرأي العام
ساهم الإعلام في كلا الدولتين بتأطير التهدئة كـ” نصر وطني”. في الهند، رُوّج لأن الضربة أُنجزت، وردّ باكستان لم يغيّر الوقائع. وفي باكستان، تم تسويق إسقاط الطائرات الهندية وتحرير الطيار كدليل على تفوق الردع. هذا الإطار أتاح لكل قيادة أن تُرضي جمهورها دون الحاجة لمزيد من التصعيد.
رابعًا: دلالات استراتيجية عميقة
- المعضلة الاستراتيجية: التصعيد دون الحرب
تُظهر الأزمة حدود قدرة الدول النووية على استخدام القوة دون الوقوع في الحرب الشاملة. فقد أصبح التصعيد أداة للتفاوض السياسي، وليس وسيلة للنصر العسكري. هذه الظاهرة، وإن كانت تجنب الدمار، فإنها تُبقي النزاع حيًا ومفتوحًا[7]
- ضعف آليات إدارة الأزمات
رغم وجود قنوات اتصال عسكرية وسياسية، فإن غياب الثقة، وانعدام المسارات الدبلوماسية الثابتة، يجعل أي خطأ تكتيكي قابلًا للتحول إلى أزمة حقيقية. لم تنجح أي دولة حتى الآن في اقتراح نظام دائم لإدارة النزاعات، كما لم تلعب الأمم المتحدة أي دور يُذكر في الأزمة، ما يفضح هشاشة النظام الدولي حيال الأزمات الإقليمية النووية.
- التدويل المتزايد للصراع
كل أزمة جديدة تزيد من حضور اللاعبين الدوليين في المعادلة، وهو ما قد يُفرغ الصراع من خصوصيته الإقليمية، ويدخله في لعبة مصالح أكبر. فقد لا تعود باكستان قادرة على الرد منفردة دون اعتبار حسابات الصين، كما لن تتمكن الهند من التحرك بحرية دون حساب تداعيات ذلك على علاقتها بالغرب.
خامسًا: مستقبل العلاقة بعد الأزمة
رغم وقف التصعيد، لم تُعالج الأزمة جذورها. لا تزال كشمير تعيش في حالة طوارئ دائمة، والمجتمعات على الجانبين تُغذى بمشاعر العداء المتبادل. ستبقى العلاقة أسيرة دوامة “التصعيد–التهدئة”، لأن الهيكل الأمني نفسه لا يسمح بتسوية دائمة. ما لم يحدث تحول جذري في مقاربة الطرفين للصراع – سواء من خلال حل كشمير أو بناء إطار إقليمي أمني – فإن الأزمات ستستمر، وإن كانت بوتيرة أكثر ضراوة مع تعقد التكنولوجيا والسياقات الدولية.[8]
أخيرًا، تجسّد أزمة مايو 2025 بين الهند وباكستان نموذجًا بالغ التعقيد لما يمكن تسميته بـ”السلام المسلح” أو “الردع المحكوم بالفوضى”. فهي لم تكن مجرد حلقة طارئة في مسلسل التوترات، بل مرآة مكثفة للبنية الجيوسياسية الهشة التي تحكم جنوب آسيا منذ منتصف القرن العشرين. ففي عالمٍ تزداد فيه النزاعات تعقيدًا بفعل العوامل القومية، الدينية، والنووية، لم يعد الصراع الهندي–الباكستاني مجرد خلاف حدودي أو حتى نزاعًا على إقليم كشمير، بل أصبح بنية صدامية متكاملة: سياسية، ثقافية، أمنية، وإعلامية. إن التهدئة التي أعقبت التصعيد لا تعبّر عن نضوج في العلاقات، بل عن ضغوط داخلية وخارجية أخضعت القرار السياسي لمنطق “إدارة الأزمة لا حلها”، وهو منطق خطير بطبيعته، لأنه لا يُنتج استقرارًا، بل يعيد إنتاج نقاط الانفجار مع كل دورة توتر جديدة. فالردع النووي الذي حال دون انزلاق الطرفين إلى حرب شاملة لا يجب أن يُفهم كنجاح استراتيجي دائم، بل كتعليق مؤقت لاندفاعة كارثية. فالعقلانية النووية، مهما كانت راسخة في المستويات العليا من صنع القرار، قد تنهار أمام ضغوط شعبوية، أو تغيّر في القيادات، أو حتى أمام حادث حدودي غير محسوب. والخطورة تكمن في أن الهامش بين “ضربة محسوبة” و”انفجار غير مقصود” بات أضيق من أي وقت مضى، خصوصًا مع إدماج الذكاء الاصطناعي، والطائرات دون طيار، والاختراقات السيبرانية في منظومة اتخاذ القرار العسكري. وإذا كانت الأزمة قد انتهت شكليًا، فإن مفاعيلها العميقة ستستمر في تشكيل إدراك الطرفين بعضهما لبعض. فالهند خرجت منها مقتنعة أكثر بضرورة تأمين تفوق نوعي في الردع التقليدي، وتعزيز الدفاعات الحدودية، وتكثيف العمليات الأمنية في كشمير. أما باكستان، فقد سعت إلى إعادة التوازن عبر تحالفاتها مع الصين والخليج، وتثبيت سردية أنها قادرة على كبح جماح الهند متى شاءت. هذا التوازن الهش يولّد ما يسميه البعض “سلام الخوف”، وهو سلام هش، موقّت، ومحمّل بإرث من الكراهية وسوء الظن المتبادل.[9]
وفي النهاية، فإن السؤال الحقيقي لا يتعلق بكيف توقفت الأزمة، بل بكيف نمنع تكرارها. وهذا لا يمكن أن يتم دون إصلاح جذري للبيئة السياسية التي تنتجها، بدءًا من تسوية سياسية عادلة في كشمير، مرورًا بفتح قنوات دبلوماسية دائمة وشفافة، وصولًا إلى بناء منظومة إقليمية لضبط التسلح وإدارة الأزمات. فبقاء الوضع على ما هو عليه لا يعني الاستقرار، بل التأجيل المزمن للانفجار. إن أزمة مايو 2025 لم تكن نهاية لحلقة صراع، بل فصلًا جديدًا في صراع أطول، ستظل المنطقة بأكملها رهينة له ما لم تنضج رؤية جديدة تتجاوز منطق “الانتقام والتوازن” إلى أفق “التسوية والتكامل”.
[1] عبد المنعم، محمد. “التصعيد النووي في جنوب آسيا: حدود الردع ومخاطر الانزلاق.” مجلة السياسة الدولية، العدد 242 (يوليو 2025): 88–103.
[2]المصري، شريف. “هل يمكن احتواء النزاع بين الهند وباكستان؟ التدخلات الدولية بين الضغط والتهدئة.” الجزيرة نت. نُشر في 19 مايو 2025، متاح على: . https://www.aljazeera.net
[3] Ganguly, Sumit. The Crisis in Kashmir: Portents of War, Hopes of Peace. Cambridge: Cambridge University Press, 1997.
[4] حسن، أيمن. “كشمير مجددًا في الواجهة: من الذي تراجع أولًا؟” قناة العربية. نُشر في 20 مايو 2025، متاح على: https://www.alarabiya.net
[5] Fair, C. Christine. Fighting to the End: The Pakistan Army’s Way of War. New York: Oxford University Press, 2014.
[6] Pant, Harsh V., and Kartik Bomma Kanti. “India’s Military Modernization: Challenges and Prospects.” International Affairs 95, no. 4 (2019): 877–895 available on: https://doi.org/10.1093/ia/iiz099.
[7] Kapur, S. Paul. Dangerous Deterrent: Nuclear Weapons Proliferation and Conflict in South Asia. Stanford: Stanford University Press, 2007.
[8] نصر، فاطمة. “السيناريوهات المستقبلية للعلاقات الهندية-الباكستانية بعد أزمة مايو.” مركز الإمارات للسياسات. نُشر في 25 مايو 2025، متاح على: . https://epc.ae
[9] Joshi, Manoj. “India-Pakistan Crises and Deterrence Stability in South Asia.” Observer Research Foundation, June 2023, available on: https://www.orfonline.org/research/india-pakistan-crises-and-deterrence-stability.