الدراسات

الأبعاد والدوافع الاستراتيجية للأطماع الأميركية في جرينلاند: دراسة تحليلية

إعداد: رحمة جمال أحمد – المدرس المساعد بكلية السياسة والاقتصاد جامعة السويس.
مراجعة: د. تامر سامي – مدير برنامج الدراسات الإستراتيجية بالمركز.

مقدمة

شهدت منطقة القطب الشمالي تحولات جذرية أعادتها بقوة إلى صدارة الاهتمام العالمي، حيث أدت التغيرات المناخية إلى بروزها كساحة جديدة للتنافس الجيوسياسي المؤثر على الاستقرار الاستراتيجي، فبعد أن شكل الجليد عائقًا أمام سهولة استثمار المنطقة، بدأت الآمال المعلقة على ذوبانه في تمهيد الطريق لتحقيق حلم فتح خطوط ملاحة بحرية قابلة للاستخدام لفترات أطول على مدار العام، بالإضافة إلى إمكانية استغلال الثروات الباطنية الكامنة تحت مياه القطب الشمالي.

فهذه المنطقة التي كانت طبيعتها القاسية تشكل تحديًا أمام الملاحة والتعدين، أضحت الآن مسرحًا واعدًا لظهور طرق شحن بحرية أقصر، ومخزونًا هائلاً من موارد النفط والغاز، فقد كشفت تقارير هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية وعمليات المسح الجغرافي التابعة لوزارة الموارد الطبيعية الروسية عن احتواء القطب الشمالي على ما يقدر بربع الثروات والاحتياطيات العالمية غير المكتشفة من النفط والغاز، إلى جانب احتياطيات كبيرة من المعادن الثمينة كالماس والذهب والبلاتين والقصدير والمنغنيز والنيكل والرصاص، ومع استمرار ذوبان الجليد، اكتسب الممر الشمالي أهمية متزايدة، حيث برزت إمكانية استخدامه كطريق شحن بديل يربط بين آسيا وأوروبا، متجاوزًا بذلك الطريق التقليدي الذي يمر عبر قناة السويس في مصر، ويمنح هذا الطريق الجديد ميزة استراتيجية كبرى تتمثل في تقليل وقت الشحن بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بالطريق التقليدي، مما يترتب عليه توفير مئات الآلاف من الدولارات في تكاليف الوقود.

تزامن هذا التحول مع حدث بالغ الأهمية، وهو قيام روسيا في عام 2007 برفع علمها في قاع المحيط المتجمد الشمالي، الأمر الذي أثار قلق الدول التي ترى لنفسها حقوقًا في أجزاء من المنطقة وأشعل فتيل تنافس متزايد بين روسيا والدول القطبية الأخرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.

إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، تشترك ثلاث دول أخرى في حدود مع المحيط المتجمد الشمالي، وهي كندا والدنمارك (التي تضم جرينلاند) والنرويج (التي تشمل سفالبارد) وبالإضافة إلى هذه الدول المطلة مباشرة على المحيط، تُعتبر فنلندا وأيسلندا والسويد أيضًا دولًا تقع ضمن منطقة القطب الشمالي. [1]

تُعدّ جرينلاند، أكبر جزيرة على مستوى العالم، يبلغ عدد سكانها 56 ألف نسمة  [2] ، وتتميز الجزيرة بأنها ذات موقع استراتيجي بالغ الأهمية؛ إذ تتوسط المحيط المتجمد الشمالي والمحيط الأطلسي، الأمر الذي يرسخ دورها المحوري في الجغرافيا السياسية العالمية، وتزداد تلك الأهمية مع تسارع وتيرة التغير المناخي وما يصاحبه من ذوبان للجليد في منطقة القطب الشمالي، وهو ما يفتح آفاقًا جديدة لخطوط الشحن ويسهل الوصول إلى موارد طبيعية قيمة كالنفط والغاز والمعادن الأرضية النادرة.       [3]

أولًا: تاريخ الحكم الذاتي لجرينلاند

خاضت جزيرة جرينلاند مسيرة متدرجة نحو تحقيق الحكم الذاتي ، انطلاقًا من جذورها التاريخية العميقة كموطن لشعب الإنويت منذ آلاف السنين، مرورًا بوصول المستوطنين النورسيين حوالي الألفية الأولى الميلادية، ووصولًا إلى الحقبة الاستعمارية الدنماركية التي فرضت سيطرتها على الجزيرة، حيث فرضت الحكومة الدنماركية احتكارًا كاملًا للتجارة مع جرينلاند، وأُغلق ساحلها أمام الوصول الأجنبي؛ ولم يُعاد فتحه إلا عام ١٩٥٠.[4]

وفي الحرب العالمية الثانية، وعندما احتل الألمان الدنمارك عام ١٩٤٠،  وخاصة عام ١٩٤١،  وُقِّعت اتفاقية مع الولايات المتحدة الأميركية وضعت بموجبها جرينلاند تحت حماية القوات الأميركية، بعد هذه الاتفاقية، أنشأت القوات الجوية الأميركية قاعدة ثول الجويةThule Air) Base) عام ١٩٥١، وظلت هناك منذ ذلك الحين.

وعقب إنهاء فترة الاستعمار التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، تم دمج الجزيرة في المملكة الدنماركية في عام 1953.

وفي الأول من مايو 1979، وعقب استفتاء في جرينلاند، أُنشئت حكومة جرينلاندية ذاتية الحكم، ذات كيان مستقل، يمنح سكان جرينلاند جهازًا برلمانيًا خاصًا بهم، بالإضافة إلى حكومة، لها سلطة قضائية في عدد من المجالات المهمة، مثل الإدارة الداخلية، والضرائب، والشؤون الدينية، وصيد الأسماك، والصيد البري، والشؤون الزراعية.

 كما نُقلت الرعاية الاجتماعية، وشؤون سوق العمل، والتعليم والشؤون الثقافية، والخدمات الصحية، والإسكان، وحماية المناطق، إلى الإدارة الداخلية لسكان جرينلاند.

 وفي عام 2009 أصدر البرلمان الدنماركي قانون تفويض منح جرينلاند حق إبرام اتفاقيات دولية في المناطق الخاضعة لسلطة الحكم الذاتي في غرينلاند، وكان هذا القانون بمثابة خطوة أولى نحو الحكم الذاتي.

في عام ٢٠٠٤، شُكِّلت لجنة دنماركية-جرينلاندية لتقييم إمكانية إعطاء السلطات مزيد من الصلاحيات في جرينلاند ، وفي ٢٥ نوفمبر ٢٠٠٨ أُجري استفتاء غير ملزم بشأن استقلال جرينلاند ، صوّت بموجبه ٧٥٪ من سكان جرينلاند لصالح المزيد من الاستقلال.[5]

ثانيًا: تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وجرينلاند

إن العلاقة بين الولايات المتحدة وجرينلاند تمتد لأكثر من قرن من الزمان وترتكز على مجموعه من المصالح الاستراتيجية والعسكرية والجيوسياسية، ففي عام ١٩١٦ اعترفت الولايات المتحدة الأميركية بالسيادة الدنماركية على جرينلاند  [6]  ، وخلال الحرب العالمية الثانية، عزز الجيش الأميركي وجوده الحربي فيها باعتبارها مستعمرة دنماركية ، للمساعدة في حراستها وحمايتها من دول المحور، ودعم عمليات الحلفاء المختلفة، بسبب وقوع الدنمارك تحت احتلال ألمانيا النازية من عام ١٩٤٠ إلى عام ١٩٤٥. 

وقد اعتبر الرئيس الأميركي هاري ترومان غرينلاند بعد الحرب موقعًا مثاليًا للأصول العسكرية الأميركية الدائمة القادرة على كشف الضربات الجوية الكبرى – بما في ذلك الضربات النووية – التي يشنها الاتحاد السوفيتي والتصدي لها، وفي عام ١٩٥١، وقّعت الولايات المتحدة معاهدة مع الدنمارك سمحت لواشنطن بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية في جرينلاند، بالإضافة إلى إنشاء قواعد أو “مناطق دفاع” جديدة إذا رأى حلف شمال الأطلسي (الناتو) ذلك ضروريًا.

 حتى الآن، ما تزال الولايات المتحدة الأميركية تحتفظ في جرينلاند بقاعدة بيتوفيك الفضائية (التي كانت تُعرف سابقًا باسم قاعدة ثولي الجوية)، والتي أُنشئت عام 1951 وتخضع لقيادة قوة الفضاء الأميركية منذ عام 2020، وتُعد بيتوفيك أقصى القواعد العسكرية الأميركية شمالًا، وتضم حوالي مائتي فرد من الجيش الأميركي، بالإضافة إلى تجهيزات متطورة للدفاع الصاروخي ومراقبة الفضاء، بما في ذلك نظام رادار يوفر إنذارًا مبكرًا ويكشف عن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات التي تُطلق من روسيا.[7]

  1. شراء جرينلاند

إن اهتمام الإدارة الأميركية بجرينلاند ليس فكرة حديثة بل هو اقتراح قديم الأزل بدأ منذ فترة الرئيس هاري ترومان، وتجدد الحديث عنه مع الاقتراح العلني الذي قدمه الرئيس دونالد ترامب خلال فترة ولايته الأولي عام 2019 لشراء الجزيرة، مما سلط الضوء على الأهمية الاستراتيجية المستمرة التي توليها الولايات المتحدة للجزيرة.[8]

وقد جاء اهتمام الرئيس هاري ترومان بجرينلاند في بداية الحرب الباردة، فقد اعتُبر موقع الجزيرة ضروريًا لسلامة الولايات المتحدة، لا سيما مع تصاعد التوترات مع الاتحاد السوفيتي ، خاصة أن  جرينلاند تقع على أقصر طريق قطبي بين واشنطن وموسكو، مما يجعلها نقطة محورية للعمليات العسكرية وأنظمة الإنذار المبكر.

في ديسمبر 1946، عرضت إدارة ترومان رسميًا على الدنمارك 100 مليون دولار من سبائك الذهب مقابل جرينلاند   [9]  وقدمت الولايات المتحدة آنذاك ثلاثة خيارات للدنمارك: اتفاقية قاعدة موسعة، أو اتفاقية دفاع تُعهد للولايات المتحدة بدفاع جرينلاند، أو بيعها بالكامل وكان هذا الخيار الأميركي المفضل، إلا ان الدنمارك رفضت هذا الخيار، علي لسان وزير خارجيتها غوستاف راسموسن ، وقد تجدد إحياء الفكرة خلال هذه الفترة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب خلال فترته الرئاسية الثانية فقد اعرب عن اهتمامه البالغ بشراء جرينلاند من الدنمارك ، بحجة أن الاستحواذ على جرينلاند سيكون “صفقة عقارية عظيمة” . إلا إن رد فعل الدنمارك جاء مشابهًا لما حدث عام ١٩٤٦ ، فقد قوبلت الفكرة بالرفض القاطع من جانب الافراد والمسؤولين الدنماركيين وعلى رأسهم رئيسة الوزراء ميتي فريدريكسن التي أكدت أن جرينلاند ليست للبيع.[10]

2. الانتخابات البرلمانية في جرينلاند وتأثيرها على أطماع ترامب

 وجهت تصريحات الرئيس دونالد ترامب بشأن اهتمامه بشراء جرينلاند، أنظار العالم تقريبا في الاهتمام بالانتخابات الأخيرة التي جرت في جرينلاند، والتي ستحدد مصير استقلال جرينلاند عن الدنمارك وتأثير ذلك على المطامع الأميركية في الاستحواذ عليها .

لقد استمرت جرينلاند تابعة للدنمارك لفترة طويلة منذ عام 1953، علي الرغم من تمتعها بقدر من الحكم الذاتي، وعلي الرغم من صدور قانون الحكم الذاتي عام ٢٠٠٩ ، الذي يتيح لجرينلاند حقها في الحصول علي الاستقلال الكامل عبر استفتاء بموافقة البرلمان الدنماركي، إلا أن كوبنهاغن استمرت في السيطرة على الشؤون الخارجية والدفاع والسياسة النقدية لجرينلاند ، وذلك بسبب مخاوف حكومة جرينلاند من انخفاض مستويات المعيشة في غياب الدعم الاقتصادي من الدنمارك، حيث توفر الدنمارك لجرينلاند ما يقرب من مليار دولار سنويا لاقتصادها [11] إلا أنه ومع تنامي حركة الاستقلال في جرينلاند وعقب وضعها لمسودة دستورها الأولي في عام ٢٠٢٣، بدأ الحديث عن إنشاء جمهورية جرينلاندية والاستقلال عن الدنمارك والاعتراف بتراث الإنويت [12] وقد شهدت جرينلاند انتخابات برلمانية في مارس ٢٠٢٥ ، تمخض عنها نجاح الحزب الديمقراطي
( ديموكراتيت) الذي يؤيد استقلال الجزيرة في الفوز علي منافسيه، بأكبر نسبة من المقاعد البرلمانية، وتعد هذه النتائج بمثابة ضربة لأطماع ترامب في السيطرة على جرينلاند، إذ أن فوز مؤيدي استقلال الجزيرة قد يصعب مهمة الرئيس الأميركي أكثر فأكثر.[13]

حيث أظهر استطلاع سابق أجرته وسائل الإعلام الجرينلاندية “سيرميتسياك” وصحيفة “برلينجسك” الدنماركية قبيل الانتخابات الاخيرة بجرينلاند، أن غالبية سكان غرينلاند تؤيد الاستقلال، وأن 84% منهم يرغبون في الاستقلال عن الدنمارك، بينما قال 45% إنهم يرغبون فيه فقط إذا لم يؤثر على مستوى معيشتهم، بينما قال 9% فقط إنهم لا يرغبون في الاستقلال التام عن الدنمارك، بينما أيد 6% فقط الانضمام إلى الولايات المتحدة الأميركية مما يعكس رغبة ضعيفة في الانتقال السريع للسيطرة الأمريكية وهو عكس ما يأمله الرئيس الامريكي دونالد ترامب .[14]

ثالثًا: أسباب تزايد الاهتمام الأمريكي بجرينلاند

إن تصاعد التوترات الدولية، والتحولات الجارية في الاقتصاد العالمي، وتداعيات تغير المناخ من تفاقم أزمة الاحتباس الحراري تسببت في تضاؤل الغطاء الجليدي في منطقة القطب الشمالي، وهو أعاد إذكاء المنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين ودول أخرى للوصول إلى الثروات المعدنية الكامنة في المنطقة.

 كل ذلك جعل جرينلاند في صميم النقاشات الحيوية التي تتعلق بالتجارة والأمن العالميين، وجعلت أنظار الولايات المتحدة الأميركية تتوجه إليها من أجل الهيمنة على هذه المنطقة الغنية بالمعادن الاستراتيجية، والتي تتمتع بموقع حيوي لطرق الملاحة في القطب الشمالي وشمال الأطلسي، حيث تتمتع جرينلاند، بموقعها الاستراتيجي الذي يربط بين أميركا الشمالية وأوروبا وآسيا، والذي يزخر بإمكانيات هائلة من الموارد، أكسبت الجزيرة أهمية استراتيجية ، جعلت القوى الكبرى تتسابق على التقرب منها.[15]

١. الأهمية الجيوسياسية  

برزت أهمية جرينلاند للولايات المتحدة كأولوية حاسمة لحماية المصالح الأميركية، في ظل تزايد التهديدات من قبل الصين وروسيا، بالإضافة إلى تنامي كنز الجزيرة من المعادن الأرضية النادرة وغيرها من الموارد الحيوية مع انحسار وذوبان الجليد، ما جعل جرينلاند ليست مجرد نقطة على الخريطة؛ بل أصبحت ركيزة أساسية للاستراتيجية الأمنية والاقتصادية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين.

فالموقع الجغرافي الحيوي لجرينلاند والذي يقع على امتداد ممرات بحرية محورية في المنطقة القطبية، ويربط بين أميركا الشمالية وأوروبا، جعلها نقطة استراتيجية هامة لاسيما للولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، إذ شكل حصنًا منيعًا ضد التهديدات الروسية، وخط مواجهة في منطقة القطب الشمالي ، كما قد تمثل جرينلاند بوابة لخطوط شحن جديدة تربط آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، مما سيشكل توسع جديدا للهيمنة الأمريكية علي طرق التجارة العالمية[16]

وقد أدركت الولايات المتحدة التحول في المشهد الاستراتيجي العالمي، مشيرة إلى أن طرق التجارة العالمية باتت مهددة، وضرورة البحث عن طرق تجارية بديلة ، علي رأسها الممر الشمالي الغربي الذي بات يمثل نقطة تحول جيوسياسية محورية، حيث من المتوقع أن استمرار ذوبان الجليد الناتج عن تغير المناخ أن يؤدي إلي فتح طريق بحري عبر القطب الشمالي بحلول منتصف القرن الحالي، يتميز بكفاءة نقل تفوق نظيريه التقليديين، قناة السويس وقناة بنما، من حيث سرعة العبور، هذه الميزة الفريدة تفتح آفاقًا جيوستراتيجية واسعة من شأنها أن تستقطب تنافسًا دوليًا متزايدًا، حيث ستسمح سيطرة الولايات المتحدة علي جزيرة جرينلاند  بسرعة الانخراط  والتوسع في منطقة القطب الشمالي ويجعلها منافس قوي لروسيا والصين في المنطقة ، والدخول في منافسة  نحو استثمار الإمكانات الاقتصادية الهائلة التي تتيحها التجارة عبر القطب الشمالي.[17]

بالإضافة إلى ذلك، فإن الدور المحوري الذي تلعبه جرينلاند في حوكمة منطقة القطب الشمالي يعزز من قيمتها الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، فمشاركة جرينلاند الفريدة في مجلس القطب الشمالي، الذي يُعد المنتدى الحكومي الدولي الأبرز لمناقشة قضايا المنطقة القطبية الشمالية، تمنحها تأثيرًا ملحوظًا في صنع القرارات المتعلقة بهذه المنطقة الحيوية. بل إن احتمالية استقلال جرينلاند تحمل في طياتها القدرة على تغيير موازين القوى القائمة في القطب الشمالي بشكل جذري، مما قد يؤثر على المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى في هذه المنطقة.[18]

٢. الأهمية الاقتصادية

 تُعد الجزر الواقعة في مناطق ذات أهمية اقتصادية عالية، بؤرًا للتنافس الإقليمي والدولي، نظرا لما تحتويه من موارد طبيعية نادرة، في هذا السياق ، يمكن اعتبار السيطرة على جزيرة جرينلاند بمثابة فتح آفاقًا واسعة لاستغلال الثروات البحرية الهائلة المتاخمة لها ، والتي ستمنح معها نفوذًا استراتيجيًا هامًا في شبكات التجارة الإقليمية الذي قد يتجاوز مجرد الوصول إلى الموارد المباشرة، ليشمل التأثير على ديناميكيات التجارة الإقليمية وشبكات التبادل الأوسع نطاقًا.

فجزيرة جرينلاند غنية بالعناصر الأرضية النادرة، مثل النيوديميوم والديسبروسيوم والتربيوم، وهي ضرورية لأنظمة الدفاع الحديثة، وأشباه الموصلات، والمركبات الكهربائية، وتقنيات الطاقة المتجددة، وتعتمد الولايات المتحدة حاليًا بشكل كبير على الصين في الحصول على هذه المعادن الأساسية، إلا أن جرينلاند قد توفر مصدرًا بديلًا وآمنًا، حيث يحتوي منجم كفانيفيلد وحده على ما يُقدر بـ 111 مليون طن متري من خامات العناصر الأرضية النادرة.[19]

وتمتلك جرينلاند رواسب وفيرة من المواد الخام الحيوية وحقول النفط والغاز الطبيعي غير المستكشفة،  حيث تحتوي المنطقة على 39 من أصل 50 معدنًا تعتبر بالغة الأهمية للأمن القومي الأميركي والاستقرار الاقتصادي، حيث يأتي سعي الحكومات الأميركية المتعاقبة في تعزيز العلاقات مع الحلفاء الاستراتيجيين لتنويع سلاسل توريد المعادن لمواجهة هيمنة الصين ، علاوة على ذلك، تقدر هيئة المسح الجيولوجي الأميركية وجود ما يزيد عن 17.5 مليار برميل غير مكتشف من النفط و148 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي قبالة جرينلاند، لذا فمن شأن ثروة جرينلاند المعدنية أن توفر للولايات المتحدة  ميزة تنافسية في التحوّل العالمي نحو الطاقة المتجددة، ودعم الصناعات المحلية، والحدّ من نقاط الضعف في وهو ما يزيد من الأهمية الاقتصادية للجزيرة عند صانع السياسة الأمريكي .  [20]

٣. الأهمية العسكرية

تكتسب جرينلاند أهميتها العسكرية في إطار جهود التوسع الروسي في منطقة القطب الشمالي، حيث يمكن النظر إلى جزيرة جرينلاند باعتبارها نقطة ارتكاز لعمليات الاستطلاع، ونشر المنظومات الدفاعية والهجومية، وعرض القوة نحو مناطق النفوذ البحري، وهو ما أثبتته روسيا من خلال توسيع قدراتها العسكرية باتجاه القطب الشمالي، ساعيةً إلى “الاقتراب العسكري من القطب، وفرض السيطرة على طريق البحر القطبي العابر (TSR) قبل أن يصبح متاحًا للاستخدام الدولي خلال العقود المقبلة .[21]

وتقع جرينلاند تحت اهتمام الولايات المتحدة بسبب استضافة جرينلاند لقاعدة بيتوفيك الفضائية،  والتي تعد مهمة  للإنذار المبكر والدفاع الصاروخي، بالإضافة إلى مراقبة الفضاء، كما تُعد جرينلاند جزءًا من منطقة GIUK (جرينلاند-أيسلندا-المملكة المتحدة)، وهي نقطة اختناق للحرب المضادة للغواصات في شمال الأطلسي خلال الحرب الباردة، ولا تزال اليوم مهمة لرصد وتقييد التحركات البحرية الروسية في شمال الأطلسي والمحيط المتجمد الشمالي، علي الرغم من ذلك، فقد تضاءلت القيمة العسكرية الاستراتيجية للجزيرة بالنسبة للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة بسبب التطورات في التكنولوجيا العسكرية.[22]

رابعًا التداعيات الجيوسياسية لهيمنة الولايات المتحدة

  • تصاعد التنافس مع روسيا والصين

قد يدفع العسكرة والتوسع الأميركي في جرينلاند روسيا إلى التقارب مع الصين، مما يعزز تعاونهما في القطب الشمالي لموازنة النفوذ الأميركي، حيث تتشارك الدولتان المخاوف بشأن التحركات الأميركية، وقد تُعززان شراكتهما الاستراتيجية ردًا على ذلك.[23]

من شأن ذلك أن يدفع الوجود الأميركي المعزز في قاعدة بيتوفيك بالقرب من فجوة (GIUK) ، روسيا إلى تسريع عسكرة قواعدها في القطب الشمالي (مثل ناجورسكوي، على بُعد 600 ميل فقط من جرينلاند).

كما أن اهتمام الصين بمنطقة القطب الشمالي من خلال مبادراتها مثل ” طريق الحرير القطبي” واستثماراتها في البنية الأساسية ، يمكن أن يتعارض مع هيمنة الولايات المتحدة، مما قد يؤدي إلى احتكاكات اقتصادية ودبلوماسية بين الطرفين خاصة أن جرينلاند أصبحت محورا هاما في مجال التنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين نظرا لوفرة مواردها الاستراتيجية الضرورية للتحول العالمي في مجال الطاقة وتطوير القدرات والتكنولوجية في قطاع الدفاع .[24]

  • تقويض التعاون في القطب الشمالي

لطالما حُكم القطب الشمالي تاريخيًا بالتعاون، إلا أن سيطرة الولايات المتحدة تُهدد بتفتيت مؤسسات مثل مجلس القطب الشمالي، وقد تُعزل روسيا، المُستبعدة منذ عام ٢٠٢٢( بسبب الحرب الروسية الاوكرانية ) نفسها أكثر، بينما قد يتزايد حذر حلفاء الشمال الأوروبي من الإجراءات الأمريكية الأحادية الجانب .[25]

  • خطر التجاوز وردود الفعل العكسية

قد تدفع الهيمنة الأميركية القسرية على جزيرة جرينلاند في حالة استمرار رفض سكانها اشكال السيطرة الأجنبية، كما ظهر خلال الاحتجاجات ضد زيارة جيه دي فانس نائب الرئيس الامريكي عام ٢٠٢٥، إلى تنفير السكان المحليين، مما يعرض اتفاقيات الدفاع القائمة للخطر، ويغذي الحركات المؤيدة للاستقلال.[26]

ختامًا، تتجلى الأبعاد والدوافع الاستراتيجية وراء اهتمام الولايات المتحدة الأميركية المتزايد بجرينلاند في تفاعلات معقدة ومتشابكة، فإلى جانب الثروات الطبيعية الكامنة في باطن الأرض ومياهها الإقليمية، تبرز أهمية الموقع الجيوسياسي للجزيرة ودورها المتنامي في حوكمة القطب الشمالي كعوامل محورية تؤجج الطموحات الأميركية، ويعزز السعي الأميركي نحو زيادة النفوذ الاستراتيجي في منطقة القطب الشمالي، والتي تشهد تحولات جيوسياسية متسارعة وتنافسًا دوليًا محمومًا، يمثل دافعًا أساسيًا لواشنطن، كما أن إمكانية تأثير مستقبل جرينلاند السياسي _ بما في ذلك سيناريو الاستقلال المحتمل_ على موازين القوى الإقليمية والدولية،  يزيد من جاذبية الجزيرة في الحسابات الاستراتيجية الأميركية، لذا، يمكن القول إن الاهتمام الأميركي بجرينلاند يتجاوز مجرد المكاسب الاقتصادية المباشرة، ليترسخ في رؤية استراتيجية شاملة تهدف إلى تأمين المصالح الأميركية وتعزيز مكانتها في نظام عالمي بالغ التعقيد والتحول.


[1] هديل أحمد ، التنافس الأمريكي الروسي في منطقة القطب الشمالي : دراسة للأبعاد الجيوبوليتيكية منذ عام ٢٠٠٧، مجلة كلية السياسة والاقتصاد ( القاهرة: كلية السياسة والاقتصاد جامعة القاهرة، العدد ٢٢ ، أبريل ٢٠٢٤)

[2] Statistics Greenland,Population,2025, Available on : https://stat.gl/dialog/topmain.asp?lang=en&sc=BE

[3] EYE ON THE ARCTIC, why Greenland is gaining strategic importance amid rising tensions: An Explainer, 10 March 2025, Available on: https://www.rcinet.ca/eye-on-the-arctic/2025/03/10/what-makes-greenland-a-strategic-prize-at-a-time-of-rising-tensions-and-why-now/

[4] Rasmus ole Rasmussen, History of Greenland, Britannica, 4 May 2025, Available on: https://www.britannica.com/place/Greenland/History

[5] ARCTIC  PoRTAL Gateway, From remote island to self -Government – Greenland’s journey towards independence, 19 June 2009, Available on: https://arcticportal.org/ap-library/yar-features/59-from-remote-island-to-self-government-greenlands-journey-towards-independence

[6] Nordics info, USA’s declaration on Danish Sovereignty of Greenland 1916,21 June 2019, Available on: https://nordics.info/show/artikel/declaration-from-usa-on-danish-sovereignty-of-greenland-1916

[7] Diana Roy and Jonathan Masters, What Would Greenland’s Independence Mean for U.S. Interests? ,Council on Foreign Relations,13 March 2025,Available on: https://www.cfr.org/article/greenlands-independence-what-would-mean-us-interests

[8] Sri Lanka guardian, guardian Is Not Alone: The untold story of America’s Interest in Greenland, 10 January 2025, Available on: https://slguardian.org/trump-is-not-alone-the-untold-story-of-americas-interest-in-greenland/

[9] Olivier Knox, Buy Greenland ? It’s Not as Cazy as You Think , U.S News, 7 Jan 2025, Available on : https://www.usnews.com/news/u-s-news-decision-points/articles/2025-01-07/buy-greenland-its-not-as-crazy-as-you-think

[10] Nordics info, Buying Greenland? Trump, Truman and the ‘Pearl of the Mediterranean’, (Copenhagen: Aarhus University), available on : https://nordics.info/show/artikel/buying-greenland-trump-truman-and-the-pearl-of-the-mediterranean

[11] سكاي نيوز عربية، نتائج انتخابات غرينلاند.. ماذا تعني لأطماع ترامب في ضمها؟، 12مارس 2025، متاح علي الرابط التالي : https://2h.ae/mYoY

[12] Diana Roy and Jonathan Masters, What Would Greenland’s Independence Mean for U.S. Interests? ,Council on Foreign Relations,13 March 2025,Available on: https://www.cfr.org/article/greenlands-independence-what-would-mean-us-interests

[13] سكاي نيوز عربية، نتائج انتخابات غرينلاند.. ماذا تعني لأطماع ترامب في ضمها؟، 12مارس 2025، متاح علي الرابط التالي : https://2h.ae/mYoY

[14] Magnus Lund Nielsen, Virtually no Greenlanders want to join the US, new poll finds, Euractiv, 28 Jan 2025, available on : https://www.euractiv.com/section/politics/news/virtually-no-greenlander-wants-to-join-the-us-poll-finds/

[15] صحيفة الشرق الأوسط، ما الذي يجعل غرينلاند ” جائزة استراتيجية ” وسط تصاعد التوترات ، ١٠ مارس ٢٠٢٥، متاح علي الرابط التالي :  https://2h.ae/lvvZ

[16] Andrew Langer, Greenland: A Geostrategic and Economic Imperative for the United States, CPAC, 22 January 2025, available on : https://www.cpac.org/post/greenland-a-geostrategic-and-economic-imperative-for-the-united-states

[17] Gregory Poling, “The Arctic Trilemma: The United States Must Compete for the Transpolar Sea Route,” Georgetown Security Studies Review, October 5, 2024, https://georgetownsecuritystudiesreview.org/2024/10/05/the-arctic-trilemma-the-united-states-must-compete-for-the-transpolar-sea-route/

[18] Andrew Langer, Greenland: A Geostrategic and Economic Imperative for the United States, CPAC, 22 January 2025, available on : https://www.cpac.org/post/greenland-a-geostrategic-and-economic-imperative-for-the-united-states

[19] M A Hossain, Why Greenland is critical for US security and economic independence?, Blitz, 11 February 2025, available on: https://weeklyblitz.net/2025/02/11/why-greenland-is-critical-for-us-security-and-economic-independence/

[20] Otto Svendsen, Seizing Greenland Is Worse Than a Bad Deal, (Washington: Center for Strategic & International Studies, 21 January 2025) available on : https://www.csis.org/analysis/seizing-greenland-worse-bad-deal

[21] Gregory Poling, “The Arctic Trilemma: The United States Must Compete for the Transpolar Sea Route,” Georgetown Security Studies Review, 5 October  2024, available on : https://georgetownsecuritystudiesreview.org/2024/10/05/the-arctic-trilemma-the-united-states-must-compete-for-the-transpolar-sea-route/

[22] Belfer Center for Science and International Affairs, Explainer: The Geopolitical Significance of Greenland, ( Cambridge: Harvard Kennedy school,16 Jan 2025) available on : https://www.belfercenter.org/research-analysis/explainer-geopolitical-significance-greenland

[23] Elizabeth Buchanan, and Anton Sokolov, Trump’s Greenland Play: The View From Moscow,  Center for the National Interest, 7 February 2025, available on : https://nationalinterest.org/feature/trumps-greenland-play-the-view-from-moscow

[24] Marco Dordoni  & Pedro Mendes , The U.S. Quest for Influence in the Arctic Frontier and Greenland, ( roma : The International Team for the Study of Security -Verona ,22 April 2025 ) available on : https://www.itssverona.it/the-u-s-quest-for-influence-in-the-arctic-frontier-and-greenland

[25] Belfer Center for Science and International Affairs, Explainer: The Geopolitical Significance of Greenland, ( Cambridge: Harvard Kennedy school,16 Jan 2025) available on : https://www.belfercenter.org/research-analysis/explainer-geopolitical-significance-greenland

[26] Newsweek, Greenland as 51st State: What US Taking Over Arctic Island Could Look Like,29 March 2025, available on : https://www.newsweek.com/greenland-arctic-island-donald-trump-denmark-nato-2051982

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى