تقارير

سوريا بعد رفع العقوبات: ملامح تحوّل في موازين القوى الإقليمية والدولية

إعداد: ياسمين محمود حامد البوني – باحثة مشاركة.

في خطوة وصفها البعض بأنها انقلاب في السياسة الأميركية تجاه الملف السوري، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي في مايو 2025 رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، بعد ما يزيد على عقد من العزلة والحصار. لم يأتِ هذا القرار في فراغ سياسي، بل جاء بعد سلسلة مشاورات رفيعة المستوى شملت ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ما يكشف عن بُعد استراتيجي إقليمي لهذه الخطوة الأميركية، التي لا يمكن قراءتها بمعزل عن تحولات أوسع في معادلة التوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط. بعيدًا عن الخطاب الإعلامي الذي قدّم القرار باعتباره محاولة لدفع مسار التسوية السياسية وتشجيع الاستقرار الداخلي، فإن رفع العقوبات يعكس تحوّلًا في طريقة إدارة واشنطن للملف السوري. هو تحوّل من مقاربة العقوبات القصوى والضغط الأقصى إلى نمط أكثر براغماتية، يوازن بين الاحتواء الاقتصادي والتأثير السياسي غير المباشر، بما يسمح بإعادة هندسة الحضور الأميركي في سوريا، دون الانجرار إلى التورط العسكري أو التكاليف الباهظة لتغيير النظام بالقوة.

التأثير على الحضور الأميركي والسعودي: من القيود إلى الفرص

    من المتوقع أن يُعيد رفع العقوبات رسم ملامح الحضور الأميركي في سوريا، إذ لم تعد الولايات المتحدة معنية بفرض حصار خانق على دمشق قدر اهتمامها بإعادة هندسة نفوذها داخل البلاد، من خلال أدوات أكثر مرونة، تشمل الانخراط السياسي المحدود وتفعيل القوة الاقتصادية كأداة تأثير. هذا التحول لا يعني انسحابًا أو تراجعًا كاملاً، بل يعكس رغبة أميركية في التملص من عبء المواجهة المباشرة، دون التخلي عن القدرة على التأثير في مخرجات المرحلة الانتقالية. القرار الأمريكي يُتيح للمملكة العربية السعودية مجالًا أوسع للعودة إلى الساحة السورية، بعد سنوات من الغياب النسبي بسبب تعقيدات الملف الإيراني والحسابات الجيوسياسية المعقدة. إذ يمكن للرياض الآن أن تدخل إلى سوريا عبر بوابة الإعمار والتنمية، مستفيدة من رفع الحظر على التعاملات الاقتصادية، لتضطلع بدور يتجاوز الدعم السياسي ليشمل إعادة الاستثمار في الدولة السورية نفسها. من خلال ذلك، تسعى السعودية إلى تعزيز نفوذها في المعادلة السورية، سواء عبر دعم حكومة الرئيس أحمد الشرع، أو عبر تحجيم النفوذ الإيراني عبر الوسائل الاقتصادية الناعمة، ما يفتح أمامها آفاقًا جديدة للتموضع كلاعب محوري في مستقبل سوريا[1].

نحو مواءمة تركية– سعودية– أميركية: توازن الضرورة لا تحالف دائم

     أحد الملامح الأبرز للمرحلة القادمة يتمثل في احتمالية نشوء مواءمة استراتيجية بين أنقرة والرياض وواشنطن، وهي مواءمة تستند إلى تلاقي الضرورات لا إلى وحدة المصالح. إذ تُدرك هذه الأطراف الثلاثة أن استمرار الفراغ السياسي في سوريا أو ترك الساحة لطهران وموسكو يعزز من حالة اللااستقرار الإقليمي، وهو ما لا يصب في صالح أي طرف منها. تركيا التي تملك حضورًا عسكريًا مباشرًا في الشمال السوري، تتقاطع مصالحها مع السعودية وأميركا في ضرورة تحجيم الكيانات الكردية المسلحة، وفي إيجاد صيغة مستقرة للانتقال السياسي تمنع تفكك الدولة السورية. أما الرياض، فتبحث عن مخرج يضمن تقليص الهيمنة الإيرانية دون تورط عسكري مباشر، بينما ترى واشنطن أن تحالف الضرورة هذا يمكن أن يُسهم في إعادة ضبط ميزان القوى على الأرض، دون استنزاف الموارد الأميركية في صراع مفتوح. ومع ذلك، فإن هذه المواءمة تظل هشّة ومحكومة بخطوط التباين العميقة. فعلاقة تركيا بالولايات المتحدة يشوبها التوتر المزمن بسبب الملف الكردي، في حين لا تزال السعودية متحفّظة تجاه الطموحات التركية في مناطق الشمال. لذلك، فإن أقصى ما يمكن أن يتحقق هو تفاهمات مرنة تتغير حسب الظرف والملف[2].

روسيا وسوريا: نفوذ استراتيجي لا يُفرَّط فيه بسهولة

رغم التقديرات التي تُشير إلى تراجع هامشي في الأداء الروسي في سوريا بفعل انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا وتداعيات العقوبات الغربية، إلا أن هذا لا يعني أن روسيا بصدد التخلي عن سوريا أو تقليص حضورها بشكل جذري. فبالنسبة للقيادة الروسية، تمثل سوريا حجر زاوية في مشروعها لإعادة تشكيل توازنات النظام الدولي، والتأكيد على مكانتها كقوة عظمى قادرة على التدخل في محيطات بعيدة عن جغرافيتها المباشرة. سوريا بالنسبة لروسيا ليست مجرد ساحة نفوذ إقليمي، بل هي منصة عسكرية واستخباراتية متقدمة في قلب الشرق الأوسط، تؤمّن لموسكو الوصول إلى المياه الدافئة من خلال قاعدتي “حميميم” الجوية و”طرطوس” البحرية، وتوفر لها فرصة مراقبة التفاعلات الجيوسياسية في شرق المتوسط والخليج العربي، فضلًا عن احتكاك مباشر ومستمر بالولايات المتحدة وحلف الناتو. هذه المكاسب تجعل من أي انسحاب روسي محتمل مخاطرة استراتيجية غير مضمونة العواقب، لا سيما في ظل تنامي التنسيق بين واشنطن وأنقرة والرياض.[3]

     ومع ذلك، فإن موسكو – وإن لم تكن بصدد الانسحاب – تُدرك أن إدارة الملف السوري باتت أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. إذ تواجه حالة من الإرهاق الاستراتيجي على جبهات متعددة، من أوكرانيا إلى جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، فضلًا عن الضغوط الداخلية الاقتصادية والسياسية. هذا الواقع قد يدفعها إلى تكييف وجودها في سوريا، لا بالانسحاب، بل بإعادة توزيع الأدوار، وتقليص انخراطها المباشر في التفاصيل اليومية للسياسة السورية، مع الإبقاء على النفوذ السيادي في مناطق النفوذ التقليدية. بمعنى آخر، قد تتجه موسكو نحو استراتيجية “التموضع المتحكم فيه”، التي تتيح لها الحفاظ على مصالحها دون الانخراط المفرط في تكاليف الصراع المحلي، وربما محاولة الاستفادة من الانفتاح الخليجي لإعادة التموضع كشريك غير حصري للنظام الجديد. من جهة أخرى، تدرك روسيا أن التوازن الجديد في سوريا يتشكل في لحظة انتقال دقيقة، وأن تفويت هذا التشكيل قد يُفضي إلى خسارة تدريجية، وليس مفاجئة، للنفوذ. لذلك، قد تنفتح على تفاهمات مرنة مع الرياض وأنقرة وواشنطن، لكنها ستظل متمسكة بخطوطها الحمراء، وعلى رأسها الحفاظ على قاعدتيها العسكريتين، وضمان تمثيل لمصالحها في أية حكومة سورية مستقبلية، وإبعاد الفصائل المسلحة المعادية لها، خصوصًا في مناطق الجنوب والبادية[4].

الرئيس أحمد الشرع: رجل المرحلة الرمزية أم قائد التحول الفعلي؟

تولي الرئيس أحمد الشرع زمام السلطة في سوريا فتح الباب أمام الكثير من التوقعات المتضاربة. من ناحية، جاء الرجل ضمن سياق إقليمي ودولي يدفع باتجاه تهدئة نسبية، ويبحث عن شخصية “توافقية” يمكن أن تجمع بين القبول الخارجي والحد الأدنى من النفوذ الداخلي. ومن ناحية أخرى، فإن الواقع السوري لا يتيح هامشًا واسعًا للمناورة أو القدرة على السيطرة الفعلية من دون دعم صلب من قوى الداخل والخارج. الشرع ليس قائدًا عسكريًا، ولا زعيمًا شعبيًا، بل هو أقرب إلى تكنوقراط سياسي بتكوين دبلوماسي، تم اختياره بعناية لتمرير مرحلة انتقالية دون صدامات كبيرة. لكنه يواجه واقعًا مفخخًا بجملة من التحديات العميقة: تعدد مراكز القوى الأمنية والعسكرية، نفوذ الميليشيات المرتبطة بالخارج، غياب الثقة بين المكونات الطائفية والقومية، وانهيار شبه كامل في مؤسسات الدولة الإدارية والخدمية. وفي ظل هذا المشهد، لا يكفي الدعم الدولي لمنحه السيطرة، ولا توفر الشعبية الرمزية غطاءً واقعيًا لفرض هيبة الدولة.[5]

    الأصعب من ذلك أن الشرع مطالب بالسير على حبل مشدود، دون أن يسقط في فخ التبعية لأي محور. فإن اقترب من واشنطن والرياض أكثر من اللازم، قد يثير غضب موسكو وطهران، ويُتهم بالتفريط في السيادة. وإن مال نحو التفاهم مع الروس والإيرانيين، فقد يُنظر إليه كامتداد للتركة السابقة التي تسببت في عزل سوريا دوليًا. ولذلك، فإن نجاحه مرهون بقدرته على إقناع الأطراف كافة – الداخلية والخارجية – بأنه ليس مجرد “وكيل توازن”، بل فاعل مستقل يسعى إلى بناء دولة جديدة على أنقاض الأزمة، لا مجرد ترميم لنظام مهترئ. يبقى الرهان الأهم في ما إذا كان الشرع سيتمكن من بلورة مشروع سياسي جامع، يُخاطب الداخل بقدر ما يُطمئن الخارج. أي أن يتجاوز الدور الإداري إلى دور تأسيسي، يتبنى أجندة إصلاح سياسي واقتصادي حقيقية، ويعيد هندسة العلاقة بين المركز والأطراف، ويضع خطة لإعادة دمج الجماعات المسلحة ضمن مشروع وطني لا يُقصي أحدًا، دون أن يُخضع الدولة لإرادتهم. إن فشله في ذلك لن يكون فشلًا شخصيًا، بل نذيرًا بعودة الاستقطاب والفوضى، ولو بصيغ جديدة أكثر “نعومة”[6].

ملامح مرحلة انتقالية أم إعادة تدوير للصراع؟

     إن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا في مايو 2025 لا يمكن اعتباره مجرد تحول تقني في سياسات الضغط الاقتصادي، بل يمثل لحظة فارقة في مسار الأزمة السورية، تحمل في طياتها مزيجًا متناقضًا من الفرص والمخاطر، الإمكانيات والقيود، الانفتاح والانغلاق. هذا القرار، الذي جاء بتوافق ثلاثي غير مسبوق بين الولايات المتحدة، والسعودية، وتركيا، يكشف عن مساعٍ لإعادة ضبط المشهد السوري من بوابة التسوية السياسية والدور الإقليمي المنفتح، لكنه في الوقت نفسه يُعيد طرح أسئلة قديمة بصيَغ جديدة: من يملك القرار السوري؟ وأيّ نموذج لسوريا يُراد فرضه أو دعمه؟ وهل يمكن تحقيق توافق فعلي بين مصالح اللاعبين الكبار دون تفجير تناقضاتهم من الداخل؟.

      سوريا تقف اليوم على مفترق طرق. من جهة، هناك ديناميكيات تشير إلى إمكانيات التهدئة وإعادة الإعمار والانخراط الإقليمي الإيجابي، مدفوعة برغبة أطراف كالسعودية وتركيا في إنهاء الصراع طويل الأمد وتوسيع نفوذهما بطريقة براغماتية عبر بوابة الاقتصاد والسياسة بدلًا من السلاح والمواجهة. ومن جهة أخرى، لا تزال بنية الصراع متجذّرة: دولة مفككة، مراكز نفوذ خارجية متصارعة، مجتمع مجزأ، اقتصاد منهار، وجماعات مسلّحة تتحرك داخل فراغات السلطة. وبالتالي، فإن أي انفتاح اقتصادي أو انخراط إقليمي يظل هشًا ومشروطًا ما لم يُقرن بإصلاحات سياسية فعلية، وضمانات للحد من النفوذ الإيراني، وضبط قواعد الاشتباك بين موسكو وواشنطن وأنقرة[7].

     في هذا السياق، تُطل روسيا كلاعب لا ينوي التنازل بسهولة، لكنه أيضًا لا يستطيع فرض معادلاته السابقة بذات الزخم، نتيجة الضغوط العسكرية والاقتصادية المتزايدة عليها في أوكرانيا وفي الداخل الروسي نفسه. قد تقبل موسكو بشراكات تكتيكية جديدة أو حتى تنازلات جزئية، لكنها لن تغادر الميدان السوري طواعية، ما لم تضمن الحد الأدنى من مصالحها الاستراتيجية والأمنية، لا سيما في الساحل الغربي وقواعدها العسكرية. أما على المستوى الداخلي، فالرئيس أحمد الشرع، رغم ما يحظى به من دعم دولي، لا يزال يفتقر إلى القدرة الفعلية على فرض السيطرة، في ظل هشاشة البنية المؤسسية، وتنوع القوى المسلحة غير النظامية، والتوازنات الطائفية والعرقية المتشابكة. الشرع يبدو اليوم أقرب إلى “واجهة توافقية” منه إلى “زعيم فعلي”، وهو ما يعني أن نجاحه سيكون مرهونًا ليس فقط بإرادته، بل أيضًا بقدرته على المناورة بين تناقضات الخارج وانقسامات الداخل، من دون الانجرار نحو الارتهان لأي محور بعينه[8].

     بناءًا على ما سبق، فإن مستقبل سوريا ما بعد رفع العقوبات لا يتحدد فقط في عواصم القرار الدولية، ولا في غرف الاجتماعات الإقليمية، بل في قدرة الدولة السورية، بمؤسساتها وشعبها ونخبها، على أن تلتقط لحظة التحول وتحوّلها إلى عملية تراكمية لبناء سيادة مستقلة ونظام سياسي متماسك وقابل للاستمرار. ولعل السؤال الجوهري الذي يجب طرحه ليس فقط: “أي سوريا يريدها الفاعلون؟”، بل أيضًا: “هل تمتلك سوريا القدرة على أن تختار لنفسها أي سوريا تريد أن تكون؟”. هذه اللحظة ليست لحظة نهاية، بل لحظة مفصلية تُحدد مسار السنوات القادمة. وإذا كان الانفتاح الأميركي–السعودي–التركي يفتح نافذة جديدة، فإن الرياح القادمة من موسكو وطهران، والحقائق المعقدة على الأرض، قد تعصف بهذه النافذة إذا لم تُبْنَ السياسات على عقلانية استراتيجية وتفاهمات مسؤولة. فما بين فرص التسوية ومخاطر الفوضى، تبقى سوريا رهينة توازنات قيد التشكّل، وربما لسنوات قادمة.


[1] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، آفاق التسوية في سوريا بعد الانفتاح العربي: حسابات الربح والخسارة، الدوحة: المركز العربي، متاح على: https://www.dohainstitute.org

[2] معهد الشرق الأوسط ، روسيا وسوريا: حدود النفوذ بعد الحرب في أوكرانيا، بيروت، معهد الشرق الأوسط، 2023، متاح على:  https://www.mei.edu/ar

[3] Lund, Aron, “Syria After Sanctions: What’s Next for U.S. Policy?” Washington: The Century Foundation,2023 available on: https://tcf.org

[4] Lister, Charles, “Is the U.S. Leaving Syria, or Just Changing Tactics?” Middle East Institute, 2024 available on: https://www.mei.edu/publications

[5] قناة الجزيرة، رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا.. دوافع واشنطن وخيارات موسكو، ” الجزيرة نت”، 4 مايو 2025، متاح على:  https://www.aljazeera.net

[6]Al-Tamimi, Aymen Jawad, “The Future of Assad’s Rule in a Post-Sanctions Syria.” Carnegie Middle East Center, 2024 available on: https://carnegie-mec.org

[7] The International Crisis Group, 2023. “Ways Out of Syria’s Deadlock.” Brussels: ICG. available on: https://www.crisisgroup.org/middle-east-north-africa/eastern-mediterranean/Syria

[8] Seligman, Lara, and Nahal Toosi, “Biden Quietly Eases Pressure on Syria.” Politico, May 2, 2025, 2025 available on: https://www.politico.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى