ترجمات وعروض – تحديّات متصاعدة:كيف يُمكِن فهم حالة الفقر والهشاشة بأفريقيا جنوب الصحراء؟
اعداد :نهاد محمود أحمد- باحثة متخصصة في الشئون الأفريقية – عضو مجموعة عمل الدراسات الأفريقية بالمركز
نشرت منصة global issues مقالًا لكل من “صموئيل باه” و”كريستوف لاكنر” حول ثنائية الهشاشة والفقر في أفريقيا جنوب الصحراء وما يرتبط بهما من تحديّات تُزيد من واقعهما المُعقّد، فضلًا عن تأثير الفقر والهشاشة سلبًا على صعيد قضايا عدة بالقارة الأفريقيّة. وفي هذا السياق يعقد المقال مقارنة بين مناطق أخرى خارج أفريقيا عانت أيضًا من الفقر والهشاشة ولكنها تمكنت من الخروج من تلك الدائرة. بناءً عليه يسعى هذا المقال إلى البحث حول الأسباب التي أدت إلى استمرار تراجع أفريقيا جنوب الصحراء وإخفاقها في الخروج من دائرة الهشاشة والحدّ من الفقر، وعدم التمكن من اللحاق بنظرائها من قارات أخرى عانوا مثلها في السابق من التحديات ذاتها.
يستهلّ الكاتبان المقال بالإشارة إلى عام 1990، والذي عاش خلاله نصف السكان في أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا والثلثين في شرق آسيا والمحيط الهادئ في فقر مدقع (يعرَّف الفقر المدقع بأنه العيش على أقل من 2.15 دولار للشخص الواحد في اليوم). وفي العقود الثلاثة التي تلت ذلك، اتبعت هذه المناطق الثلاث مسارات إنمائية مختلفة تمامًا، ما أثّر في الأخير على مسار ومستقبل كل منهم. على سبيل المثال في عام 2019، قُدِّر أن 35% من السكان في أفريقيا جنوب الصحراء يعيشون في فقر مدقع، مقارنة بـ 9% في جنوب آسيا أو 1% في شرق آسيا والمحيط الهادئ. وعليه يكون التساؤل الأهم هنا: لماذا تخلّفت أفريقيا جنوب الصحراء عن الركب؟ ما الذي يُفسِّر التقدّم البطيء في الحدّ من الفقر بهذه المنطقة؟
أولًا: دور الهشاشة والصراع والعنف في خنق التنمية
تعدّ الهشاشة والصراع والعنف، أو بشكل أعم، انعدام السلام والأمن، أحد العوائق الرئيسية أمام جهود الحدّ من الفقر في أفريقيا جنوب الصحراء. وتشير قائمة البنك الدولي للبلدان الهشّة والمتأثرة بالصراعات والعنيفة في عام 1998، وهو العام الذي تتوفر فيه أقدم هذه البيانات، إلى أن 13 بلدًا من أصل 24 بلدًا من بلدان الهشاشة والصراع والعنف في جميع أنحاء العالم كانت في أفريقيا جنوب الصحراء (54٪ أو ما يزيد قليلًا عن النصف).
وبحلول عام 2021، وهو العام الذي تتوفر فيه أحدث هذه البيانات، زاد عدد بلدان الهشاشة والصراع في أفريقيا جنوب الصحراء بمقدار ستة، ولا تزال المنطقة تمثل ما يقرب من نصف جميع بلدان الهشاشة والصراع والعنف في العالم (19 بلدًا من أصل 37 بلدًا من بلدان الهشاشة والصراع والعنف). حتى قبل غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022، كان العالم قد أصبح بالفعل أكثر عنفًا على مر السنوات، مدفوعًا إلى حد كبير بزيادة أعداد بلدان الهشاشة والصراع والعنف في أفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ولا تعاني هاتان المنطقتان من معظم حالات الهشاشة والصراع والعنف فحسب، بل أيضًا تعاني من أسوأ اتجاهات الفقر المدقع. على سبيل المثال تم تصنيف 30 بلدًا من أصل 48 بلدًا في أفريقيا جنوب الصحراء (ما يقرب من الثلثين) كبلدٍ هشّ أو متأثر بالصراع أو عنيف مرة واحدة على الأقل منذ عام 1998. أما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كانت النسبة 7 من أصل 14 دولة.
وقد انخفض الفقر المدقع بوتيرة بطيئة في أفريقيا جنوب الصحراء وازداد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (وإن كان في مستويات أقل من الفقر، ولكن يشوب تلك النتائج الشك بسبب نقص البيانات الحديثة للعديد من البلدان في الشرق الأوسط).
وإلى جانب التأثير الشديد على حياة الإنسان وسعادته، تؤدي الصراعات إلى تفاقم قدرة البلد على تعزيز تنميته والقضاء على الفقر. فهي تؤدي إلى خسائر في الأرواح (رأس المال البشري) والممتلكات (رأس المال المادي)، وبالتالي خنق الاستثمار والنمو والحدّ من الفقر.
ومن وجهة النظر الاقتصادية، فإنها تُسهم في تدمير ثقة المستثمرين في الاقتصاد كما تؤدي إلى إهدار الإنفاق العسكري. وتفاقم النزاعات الذي يقود إلى زعزعة استقرار النشاط الاقتصادي، وتعطيل سلاسل القيمة الغذائية، وزيادة خطر انعدام الأمن الغذائي والجوع. ويزداد الأمر في أوقات الاضطرابات السياسية أو المدنية، حيث يفرّ الناس بحثًا عن الأمان في البلدان المجاورة، وما يصاحبه من تقييد للتنقل البشري والنقل، وتدمير الثقة وكذلك رأس المال الاجتماعي، ويعيش الناس في خوف وذعر مع أمل ضئيل أو معدوم في حياة أفضل. كل هذه العوامل تتعارض مع قيم الحرية والسلام والاستقرار اللازمة للحدّ من الفقر.
ثانيًا: الفقر والهشاشة.. حلقة مُفرغة
يزيد انعدام السلام من خطر الفقر في أفريقيا جنوب الصحراء. وفي هذا الإطار تشير التقديرات إلى أن جميع بلدان الهشاشة والصراع والعنف في المنطقة خلال عام 1998 كانت بلدانًا منخفضة الدخل، في حين انقسمت البلدان غير المنضمة إلى الهشاشة والصراع والعنف بين بلدان متوسطة الدخل وبلدان منخفضة الدخل.
فجمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيريا كانوا متأثرين بشدة بالنزاعات التي عصفت بهم، وهي البلدان الوحيدة التي ظلت بلدانًا تعاني من أوضاع الهشاشة والصراع والعنف دون انقطاع منذ عام 1998.
وكان متوسط معدل الفقر المدقع في هذه البلدان الأربعة المنخفضة الدخل يصل إلى 73% خلال عام 1998، في حين بلغ متوسط معدل الفقر المدقع في البلدان المتبقية من أوضاع الهشاشة والصراع والعنف 44% مقارنة بنسبة 56% لجميع البلدان المنخفضة الدخل غير المنضمة إلى أوضاع الهشاشة والصراع والعنف.
وفي عام 2019، كانت البلدان الأربعة المذكورة أعلاه لا تزال تعاني من ارتفاع معدل الفقر المدقع بنسبة 58%، أي ما يقرب من ضعف معدل الفقر المدقع في البلدان المتبقية من أوضاع الهشاشة والصراع والعنف أو جميع البلدان المنخفضة الدخل غير المنضمة إلى أوضاع الهشاشة والصراع والعنف (34% و39% على التوالي).
ثالثًا: ثنائية الهشاشة والفقر وعلاقتها ببناء السلام في أفريقيا جنوب الصحراء
يثار هنا تساؤل رئيسي مفاده: هل يعود انعدام السلام في أفريقيا جنوب الصحراء إلى معدلات الفقر المرتفعة وعدم المساواة، خاصة في توزيع الدخول في المنطقة؟ في هذا الصدد أشارت الدراسات إلى أن كثرة المظالم تُزيد من خطر الصراع وتضعف من أية محاولات لبناء السلام، ويقصد هنا بالمظالم حرمان الأفراد أو مجموعات من الأفراد من حقوقهم (اجتماعيًا، سياسيًا، ثقافيًا). فتكون حينها النزاعات أكثر احتمالًا عندما يحدث الحرمان على أساس العرق أو الدين أو الموقع الجغرافي. والواقع أن التنوع العرقي والثقافي المرتفع في أفريقيا جنوب الصحراء يزيد من الميل إلى اندلاع مثل هذه الصراعات.
وتدعم العلاقة السلبية بين حالة الدخل ووضع أوضاع الهشاشة والصراع والعنف فكرة أن الفقر يحرّك الصراعات. ومن ناحية أخرى، من المهم التشديد على أن هذه ليست فرضية تلقائية؛ فثمانية بلدان كانت دائما بلدانًا منخفضة الدخل ولكنها لم تكن بلدانًا في أوضاع الهشاشة والصراع والعنف في عام 2019. كما أن اثنتين منهما (رواندا وأوغندا) لم تتعرضا قط لأوضاع الهشاشة والصراع والعنف طوال الفترة التي توافرت عنها البيانات سالفة الذكر. وعمومًا، يُمكن للفقر والهشاشة أن يعززا كل منهما الآخر وأن يخلقا حلقة مفرغة أو فخًّا يصعب الخروج منه.
وأخيرًا، يمكن القول بوجود عوامل أخرى يمكن أن تُفسر معًا ارتفاع مستويات الفقر والهشاشة في أفريقيا جنوب الصحراء، مثل انخفاض مستوى التحصيل المدرسي، وارتفاع عدم المساواة في النتائج التعليمية، والافتقار إلى الوظائف اللائقة. وبالتالي، فإن تحسين النتائج التعليمية للجميع (أي الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة) وزيادة فرص العمل للجميع (أي الهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة) سيكونان من المجالات ذات الأولوية في أفريقيا جنوب الصحراء التي يُمكن أن تكسر فخ الفقر والهشاشة الذي يبدو أن المنطقة عالقة فيه. ومن المُرجح أن يكون السكان المتعلمون تعليمًا عاليًا أكثر تسامحًا، في حين أن فرص التعليم والعمل توفر الطريق الأكثر احتمالًا للخروج من الفقر. ومع ذلك، فإن هذه الإجراءات السياسية هي الأطول أجلًا في منظورها، وتتطلب أن يكون السلام والاستقرار محققين بشكل فعّال ومُستدام.
الرابط الأصلي للمقال: