قراءة في السرديّة الأوروبيّة تجاه الهجرة الإفريقيّة غير النظاميّة
اعداد :
نهاد محمود أحمد – باحثة متخصصة في الشئون الأفريقية عضو مجموعة عمل الدراسات الأفريقية بالمركز
في ظل تصاعد الادعاءات الغربيّة حول تنامي التدفقات الإفريقيّة غير النظاميّة إلى القارة الأوروبيّة، وما صاحب ذلك من ردود فعل غربيّة واسعة النطاق لخفض هذا التدفق، عبر تدشين حِزمة من السياسات والشراكات الأوروبية- الإفريقيّة، يحاول هذا المقال بيان وتفنيد عددًا من الادعاءات حول واقع الهجرة الإفريقيّة غير النظاميّة، خاصة تلك المتعلقة بزيادة أعداد المُهاجرين الأفارقة إلى أوروبا، من خلال عرض أبرز ما تم تناوله مِن سرديّات بعدد من المنصات الأجنبية حول الهجرة غير النظاميّة المُتدفقة من البلدان الإفريقيّة إلى نظيرتها الأوروبية، وذلك عبر 3 محاور رئيسية: يذهب المحور الأول إلى مناقشة أبرز الادعاءات الغربيّة حول الهجرة الإفريقيّة إلى أوروبا. ويناقش المحور الثاني المخاطر المُصاحبة للهجرة غير النظاميّة وردود الفعل الأوروبية الساعيّة لتحجيم تلك الظاهرة. أما المحور الثالث فيعرض المقاربة الأوروبية والتعاون الثنائي (الأوروبي- الإفريقيّ) لمُجابهة الهجرة الإفريقيّة غير النظاميّة.
المحور الأول: الهجرة الإفريقيّة إلى أوروبا.. الأساطير في مقابل الحقائق
في هذا الإطار المعني بتفنيد المزاعم الأوروبية حول حجم المُهاجرين الأفارقة من أوطانهم إلى أوروبا، يُشير الكاتب “دولو نياورو” في الفصل التاسع الذي حمل عنوان “مقارنة بين الهجرة الإفريقيّة إلى أوروبا والهجرة الأوروبية في القرنين الأخيرين”، مِن كتاب “المدّ المُتغير للهجرة، والهجرة خلال القرون الثلاثة الماضية”، الصادر في يناير 2023م، إلى أن الهجرة الإفريقيّة تجاه أوروبا يُحيط بها الكثير من السرديّات المُزيفة والأساطير، والتي نناقش أبرزها على النحو التالي:
- هل تحتضن القارة الأوروبية النسبة الأكبر من المُهاجرين الأفارقة؟
تتجسد الأسطورة الأبرز هنا في القول بأن هناك حركة جماعية للأفارقة تُغرِق قارة أوروبا. في الواقع يشير الكاتب ” نياورو”، بالفصل التاسع سالف البيان، إلى أن هذا الادعاء ليس هو الواقع على الإطلاق، وذلك في ضوء الإحصاءات والبيانات ذات الصلة. أولًا: لم يُظهِر اتجاه الهجرة العالمي ارتفاع كبير خلال الفترة (1990-2020) في الهجرة العالمية للأفارقة وحدهم. فقد ارتفع عدد المُهاجرين فقط من 2.9٪ إلى 3.6٪ كنسبة من سكان العالم البالغ عددهم 7 مليارات شخص. وهذا يُترجَم إلى حوالي 270 مليون شخص فقط. بينما يُقدّر عدد السكان الأفارقة بأكثر من 1.2 مليار نسمة. وتشير التقديرات أيضًا إلى أن 3.0٪ فقط من السكان الأفارقة مقارنة بـ 8.5٪ السكان الأوروبيين يعيشون خارج بلدانهم الأصلية. هذا لا يرسم بأي حال من الأحوال صورة الهجرة الجماعية الإفريقيّة التي تروّج لها وسائل الإعلام والساسة اليمينيون في أوروبا. وفي حين أن هناك زيادة في هجرة الأفارقة، فإن الهجرة داخل أفريقيا هي التي تُهيمن على معظمها. حيث تم تسجيل أنه منذ عام 2010م زادت الهجرة البينيّة الإفريقيّة بنسبة 43.6٪ مقارنة بـ 26٪ من الأفارقة المُهاجرين إلى أوروبا خلال الفترة ذاتها. كما قُدِّر العدد الإجمالي للمُهاجرين الأفارقة حتى عام 2020م بنحو 40.6 مليون وهو ما يُمَثّل 14.5٪ فقط من عدد المُهاجرين في العالم. تُمثّل آسيا على سبيل المثال 41٪ من المُهاجرين في العالم، بينما يُمَثّل الأوروبيون 22.5٪، وهي نسب أعلى كثيرًا من نسبة المُهاجرين الأفارقة.
تمامًا مثل العديد من المُهاجرين الأوروبيين في بداية القرن 19 الذين هاجروا بحثًا عن آفاق اقتصادية أفضل، فإن معظم الأفارقة الذين ينتقلون إلى أوروبا يبحثون عن فرص اقتصادية أفضل، فهم لا يبحثون عن الرفاهية كما يعتقد البعض وينشرون على نطاق واسع. كما أن صورة هؤلاء الأفارقة الذين يصلون إلى أوروبا تؤكد على هذه الحقيقة. إنهم شباب متعلمون ومهرة يبحثون عن وظائف وليس صدقات. وتشير التقديرات إلى أن 50% من هؤلاء المُهاجرين مِن أفريقيا هم مِن الشابات المتعلمات.
- هل يتجه المُهاجرين الأفارقة فقط إلى أوروبا؟
من جهة أخرى يُشير الكاتب إلى أن الأسطورة الثانية تتعلق بالترويج على أن جميع اللاجئين وطالبي اللجوء الأفارقة يتجهون إلى أوروبا، ذلك ليس صحيحًا أيضًا. حيث يصل 27٪ فقط من لاجئي العالم إلى أوروبا ويُشكّل الأفارقة 7.2٪ فقط من هذا الرقم. ويميل معظم المُهاجرين الأفارقة في الواقع إلى البقاء في مناطقهم؛ هذا هو السبب في أن أوغندا على سبيل المثال تستضيف لاجئين من إثيوبيا وكينيا والسودان. فهنالك ما يقرب من 3.5 مليون لاجئ وطالبي لجوء من البلدان المجاورة الإفريقيّة مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان والصومال وبوروندي.
- هل تصل النسبة الأكبر من المُهاجرين الأفارقة إلى أوروبا عبر الوسائل غير النظاميّة؟
فيما يتعلق بهذه السرديّة القائلة بأن النسبة الأكبر من المُهاجرين الأفارقة يصلون إلى أوروبا عبر سبل غير شرعيّة، يشير الواقع إلى العكس تمامًا؛ فحوالي 80٪ من السكان المُهاجرين الأفارقة إلى أوروبا يستخدمون الوسائل العادية النظاميّة للوصول إلى أوروبا. وذلك على الرغم من تناقص قنوات الهجرة النظاميّة. في هذا الإطار سجلت “Froatex” وكالة الحدود الأوروبية أن40,000 مهاجر غير شرعي وصل إلى أوروبا من إفريقيا خلال الفترة (2019-2020)، إلا أن هذا يُشكّل أقل من 10٪ من الهجرة النظاميّة إلى أوروبا خلال نفس الفترة. وهذا يتناقض مع التصوّر القائل بأن معظم الأفارقة الذين يصلون إلى أوروبا لا يأتون إلا عبر وسائل غير نظاميّة. وهذا يعني أيضًا أن هناك أسباب وجيهة تسمح للمُهاجرين الأفارقة بالحصول على تأشيرات ووثائق هجرة أخرى من الحكومات الأوروبية.
- هل يُشكّل المُهاجر الإفريقي عبئًا على الموارد والخدمات الاجتماعية الأوروبية؟
تتجسد الأسطورة الرابعة والأخيرة هنا في أنه من المتصور والمروّج له نطاق واسع أن المُهاجرين الأفارقة يُشكّلون عبئًا كبيرًا على الخدمات الاجتماعية في البلدان المُضيفة لهم مثل الرعاية الصحية والإسكان. والحقائق لا تؤكد هذا الادعاء؛ حيث يوفر المهاجرون الأفارقة عمالة بالغة الأهمية لبعض القطاعات الهامة، خاصة في ظل ارتفاع معدلات أعمار السكان في أوروبا، ناهيك عن التصور الاجتماعي الرافض لوظائف بعينها، وهو ما يخلق مجالًا للعمالة المُهاجرة. ففي العديد من البلدان الأوروبية، على سبيل المثال، يُشكّل المُهاجرون الأفارقة نسبة كبيرة من القوى العاملة في مجال الرعاية الصحية وكذلك في صناعة الخدمات.
المحور الثاني: الهجرة الإفريقيّة.. مخاطر مُحتملة وسط ردود فعل أوروبية ساعيّة للتحجيم
في هذا الإطار نشرت صحيفة الجارديان البريطانية مقالًا لـ “إيفلين جرونينك” حول هجرة الأفارقة تجاه القارة الأوروبية والمخاطر المُصاحبة لها، وردود الفعل الأوروبية إزائها ودور تلك القوى الاستعمارية السابقة في التغذية غير المباشرة للهجرة الإفريقيّة. بداية تشير “جرونينك” إلى أنه من غير المنطقي الادعاء بأن الأفارقة ليسوا على دراية بمخاطر الهجرة، أو لم يحاولوا “بناء بلادهم”، فالأمر يتعلق لديهم بتفاقم حالة من اليأس بالغة المدى يشعرون بها تجاه ممارسات حكوماتهم وواقعهم السياسي الذي بات عصيًّا على التغيير المأمول.
وبدلًا من أن تقدّم الأطراف الدوليّة الفاعلة الدعم، لا سيما الأوروبية، من أجل تغيير واقع البلدان الإفريقيّة على نحو يجذب العيش بها ويقلل من معدلات الهجرة، إلا أنها تقوم بضخّ المزيد من الدعم والمساعدات للقادة الأفارقة المشهود لهم بالقوة والاستبداد من أجل إبقاء مواطنيهم “الأفارقة” داخل حدودهم، حتى لو سيتم ذلك عبر احتجاز راغبي الهجرة داخل المعسكرات والسجون، إذا لزم الأمر. وهو ما تفعله المملكة المتحدة بالفعل تجاه ليبيا (التي أرسلت لها معدات وأموال ليتم إرسال المُهاجرين لها نحو معسكرات الاعتقال التي يمزقها ممارسات التعذيب والانتهاكات الإنسانية الجسيمة)، وتونس والمغرب والسنغال التي أرسلت إليها قوات تابعة إلى الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل للقيام بدوريات على شواطئها، وهي القوات التي يُنسب إليها استخدام العنف ضد المُهاجرين واللاجئين لمنع تدفقهم للداخل الأوروبي.
- مخاطر واسعة المدى:
تستنكر الكاتبة “جرونينك” من ناحية أخرى مَن يقومون بتوجيه اللوم إلى هؤلاء المُهاجرين، الذين يتم التلاعب بهم من قِبَل المتاجرين بالبشر وعصابات القوارب الصغيرة ومُدَبّري الهِجرات غير الشرعية، كالمفوّض الأوروبي الهولندي “ووبك هوكسترا” والذي يحذر المُهاجرين من المجيء لأوروبا قائلًا “سيكون خطئك أنت لأنك تستمع بغباء إلى المتاجرين بك”. من ناحية أخرى، تُقدِّم أوروبا المساعدات في شكل زيادة الوعي بمخاطر رحلات الهجرة غير الشرعيّة. كقيام الحملات الغربيّة، بالتعاون مع “شركاء التنمية” في أفريقيا، بإيصال رسالة مفاداها أن: الرحلة مميتة! عدم الشرعية لتلك الرحلة أمر مروّع! فضلًا عن ممارسات العنصرية التي ستواجهها هنا! ولبيان مخاطر الأوضاع وصعوبتها حال نجاح الهجرة، ففي عام 2020م قال الأفارقة العاملون في حقول الزيتون الإيطالية، في مقابلة مع دويتشه فيله الألمانية، إن مواطنيهم الأفارقة يجب ألا يأتون إلى أوروبا لأن الأجور منخفضة والعمل شاق للغاية. فسيكون من الأفضل بكثير أن يبقى الأفارقة ببلدانهم ويعملون على نهضتها وإعادة بنائها تجنبًا للظروف الصعبة التي ستواجههم هنا.
- المقاربة الأوروبية لإعادة المُهاجرين.. أي فعاليّة؟
فيما يتعلق بنتائج التعامل الأوروبي بشأن إرجاع بعض المُهاجرين مرة أخرى لبلدانهم، فنجد أنه عندما قام عدد من الصحفيين الأفارقة بمنصة ZAM بفحص مشاريع لإعادة توطين المُهاجرين العائدين المُمولة من أوروبا في نيجيريا، وجدوا أن العديد من العائدين منهم باعوا ما لديهم بالفعل وغادروا مرة أخرى أوطانهم. حيث أنهم كانوا يعلمون أن ذريعة العودة للوطن وبنائه من جديد وفقًا للسياق الأفريقي الحالي هي مغالطة كبيرة وعدم دراية أوروبية -بقصد أو دون قصد- بحقيقة وماهيّة الواقع الأفريقي الحالي. لاسيّما في ظل ممارسات القمع من قِبَل الحكومات والنخب التي تُسيء استخدام السُلطة للحصول على الامتيازات والثروات غير المشروعة، في ظل غياب حُكم القانون والمساءلة.
استكمالًا لتحقيق منصة ZAM حول الهجرة، قال الغالبية العظمى من الأشخاص الذين تمت مقابلتهم بشكل عشوائي في زيمبابوي والكاميرون وأوغندا وكينيا ونيجيريا إنهم سيغادرون إذا أُتيحت لهم الفرصة، حتى وهم يعلمون عن المهربين الذين يستغلونهم أو المصير الذي قد يواجهونه بالسجن في ليبيا أو مخيمات اللاجئين الموحلة التي لا نهاية لها. فليس لديهم خيار أخر ببلادهم التي لا يختلف الوضع بها كثيرًا عن المصير الذي ينتظرهم خلال هجرتهم غير الشرعية. ولا يزال إيجاد متنفس بعدد كبير ببلدان أفريقيا أمرًا مستحيلًا، كما ظهر في الانتخابات الأخيرة في نيجيريا وأوغندا وزيمبابوي.
وفي السياق ذاته تقول “إليزابيث بانيي تابي”، صحفية كاميرونية: “قادتنا لا يسمحون لنا بمساحة للتنفس”. إنها لا تحب المتمردين الناطقين بالإنجليزية الذين حملوا السلاح ضد النخبة الحاكمة الناطقة بالفرنسية بالكاميرون، لكنها تتفهّم ما دفعهم لذلك، في إشارة إلى التهميش الذي يتعرضون إليه من قِبَل النخبة الحاكمة. كما يؤكد زميلها الموزمبيقي “إستاسيو فالوي” عندما كتب عن قيام حركة الشباب بتجنيد الشباب من حقول الأحجار الكريمة القاحلة التي كانت ذات يوم قرى. قائلًا: “لقد سرقوا كل شيء منهم ولا يعرفون ماذا يفعلون”.
تذكر هنا “جرونينك” أنه خلال أكثر من 20 عامًا من عملها الصحفي في أفريقيا، صادفت العديد من الأمثلة لأشخاص حاولوا بناء حياتهم، كما يروّج المجتمع الدولي بأنه يمكنك بناء بلدك والاستثمار بها عوضًا عن الهجرة غير الشرعية. لكن إزاء محاولات المواطنين البدء من جديد واجهوا الكثير من ممارسات القمع والتضييق، على سبيل المثال قامت الحكومة في السنغال ببيع تراخيص الصيد لسفن الصيد الأجنبية، تاركة القرية -في واقعة تكررت كثيرًا- دون دخل. كما رأى المزارع الكونغولي أبقاره يستولي عليها الحاكم المحلي. وجاءت شركة تعدين، بالشراكة مع الحزب الحاكم، لتجريف قرية بموزمبيق. كذلك تم نهب إحدى الغابات في الكاميرون من قِبَل شركة أوروبية حصلت على الموافقة عقب تناول وجبة عشاء فاخرة مع سياسيين حكوميين محليين ودودين. كما قامت مجموعات من القوات الخاصة بتمويل من إسرائيل بإحراق القرى المتمردة حول الغابات.
فيما يتعلق بالحجج الغربية المتعلقة بمساعدات التنمية التي يقدمونها للقارة فهو ادعاء آخر يفتقد للصواب والدقة. دلالة ذلك على سبيل المثال أن جمهورية الكونغو الديمقراطية تحصل سنويًا على ٣.٥ مليار دولار (٢.٩ جنيه إسترليني)، فضلًا عما تمتلكه من ثروات معدنية طائلة، ومع ذلك ونتيجة للمحسوبية والتوزيع غير العادل للمساعدات والدخول فهي تُصَنّف كواحدة من أفقر بلدان العالم. ويتم دفع الكثير من هذه المساعدات داخل الدولة في ظل نظام المحسوبية الشائع هناك، كما أنه من النادر أن تصل عائدات المعادن إلى خزائن الدولة. ما جعل المواطنين هناك متعطشين للثورة والانتفاض ضد ممارسات الفساد واسعة النطاق، وفقًا لما أدلى به الصحفي الاستقصائي الكونغولي “إريك موامبا”.
على الصعيد ذاته تقول وزارة الخارجية الهولندية في وثيقة “استراتيجية إفريقيا الجديدة” الخاصة بها أن مساعداتها تُسهِم في إنقاذ قرابة ٣٢ مليون إفريقي من سوء التغذية، وتزيد من دخل وإنتاجية ٨ ملايين من صغار المزارعين الأفارقة، وتضمن إدارة ٨ ملايين هكتار من الأراضي الإفريقيّة بشكل مستدام لإنتاج الغذاء. وتتساءل الكاتبة هنا: أين حقًا تذهب كل هذه الأموال والمشروعات وكيف تتم؟ وفي ظل أي حكام يتم ذلك؟ هل في ظل حكام الحزب الواحد الديكتاتوريين أصحاب الأموال الطائلة؟ بناءً عليه أجرى عدد من الصحفيين الأفارقة تحقيقات واسعة بشأن تلك المشروعات المعلنة وتوصلوا إلى أن كل المشروعات التي تم التحقيق بها قد تم الاستيلاء عليها من قِبَل مُلّاك الأراضي المحليين أو النُخب السياسية الحاكمة، دون أي استفادة حقيقية للمواطنين العاديين المعنيين بتلك المشروعات والمساعدات.
اللافت هنا أن تلك المساعدات سواء وصلت إلى مستحقيها أم لا، فالغرب لا يُعنى إلا بمصالحه حتى لو جاءت تحت شعارات المساعدات وتحقيق التنمية المستدامة وهو ما تؤكده على سبيل المثال هولندا، وتم ذكره في الصفحة ٢٨ من وثيقتها المعنية بأفريقيا سالفة الذكر، والتي تقول فيها الحكومة إنها تهدف إلى حماية وصول هولندا والاتحاد الأوروبي إلى المواد الخام الهامة لهما. بينما تساعد البلدان الإفريقيّة في الوقت ذاته على زيادة حصتها في سلاسل القيمة المستدامة مع الاتحاد الأوروبي. فالغرب لا يريد سوى العقود التي يبرمها بغرض تحقيق هذه المصالح فقط، حتى وإن كان المستبدين شركائهم. ويضطر الغرب خلال ذلك للرضوخ لهؤلاء الديكتاتوريين للحصول على الموارد الطبيعية الوفيرة وبخاصة في ظل الحضور الروسي القوي المناوئ للقوى الغربية المتنافسة داخل القارة الإفريقيّة. والذي يهدد بشكل متصاعد التواجد الغربي التقليدي بالدوائر الإفريقيّة الاستراتيجية، ما يؤثر في الأخير على حالة القمع التي يواجهها المواطنين الأفارقة والتي لا تلقى رفض أوروبي حقيقي.
في الوقت الحالي، ترى الكاتبة بأن الشعوب الإفريقيّة ليسوا في غفلة، بل يرون جيدًا حجم الأموال التي يستثمرها الغرب في جيوب القادة الأفارقة الذين يطردونهم أو يقمعونهم. كما يرون جليًّا كيف يقوم الساسة هناك بتحويل أموالهم الطائلة في البنوك السويسرية، وكيف يقومون بشراء المنازل الفارهة بلندن، ويقضون عطلاتهم بفرنسا، ويذهبون إلى العيادات الصحية للعلاج والنقاهة بألمانيا، بينما يغرق رعاياهم في البحر الأبيض المتوسط.
خلاصة القول في هذا الصدد؛ أن قضية التضامن مع المضطهدين في أفريقيا ليست استراتيجية يسيرة. وما يزيد الأمر تعقيدًا أن العديد من البلدان لا تمتلك حركات معارضة يُمكن أن تتولى الحكم ويتم الاعتماد عليها في حال غادر الطغاة والمستبدين المتوليين زمام الأمور.
المحور الثالث: الهجرة الإفريقيّة إلى أوروبا.. إعادة قسرية تواجه مقاومة
فيما يتعلق بهذا المحور، نشرت منصة The Conversation الإعلامية مقالًا للباحثة “فرانزيسكا زانكر” حول محاولات الاتحاد الأوروبي إعادة المُهاجرين إلى أوطانهم، وفعاليّة تلك المقاربة، التي يتخللها الكثير من الطرق قسريّة، ما جعلها تُشكِّل مصدرًا للتوتر الشديد في البلدان الإفريقيّة وكذلك الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. في البداية تشير “زانكر” إلى أن ما تريده دول الاتحاد الأوروبي هو أن تستعيد بلدان المُهاجرين أبنائها غير القادرين على العيش بشكل قانوني في أوروبا. لكن معدلات العودة من الاتحاد الأوروبي إلى أفريقيا هي الأدنى مقارنة بمناطق العالم الأخرى، بل إنها انخفضت في العقد الماضي. على سبيل المثال فإن 9٪ فقط من السنغاليين الذين لديهم أمر بالعودة من الاتحاد الأوروبي فعلوا ذلك بين عامي 2015 و2019. وبعبارة أخرى، مِن بين 30,650 مهاجرًا سنغاليًا تلقّوا أمرًا بالمُغادرة من بلد أوروبي بين عامي 2015 و2019، لم يمتثل لتلك الأوامر سوى 2,805 مهاجرين. جدير بالذكر أن العودة القسرية تتطلب تعاون بلدان المنشأ من خلال إصدار وثائق سفر أو السماح للرحلات الجوية بالهبوط.
وتشير الباحثة “زانكر” إلى أن العائدات لتلك السياسات المعنيّة بالهجرة القسرية مُنخفضة للغاية ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن صانعي السياسة الأوروبيين لا يُسلطون الضوء بالشكل الكافي على القضايا والمصالح الإفريقيّة في هذا الصدد، وهو ما يتجلّى في مقاومة دول غرب أفريقيا على سبيل المثال في التعاون بشأن عمليات العودة. والتي تتراوح استراتيجياتها من الامتثال على مضض لترحيل مواطنيها إلى عدم الامتثال الاستباقي، كما سنعرض على النحو التالي:
- شراكات غير فعّالة.. أسباب ودلالات
بغضّ النظر عن رواندا، التي وقعّت اتفاقًا مع المملكة المتحدة لاستقبال طالبي اللجوء، فإن عمليات العودة من الدول الأوروبية لا تحظى بشعبية كبيرة في معظم البلدان الإفريقيّة. على سبيل المثال تم إنشاء إطار شراكة للاتحاد الأوروبي في يونيو 2016، سعى إلى تعبئة موارد ونفوذ كل من الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء لإقامة تعاون مع الدول الشريكة من أجل “إدارة” تدفقات الهجرة. وذكر أن الأولوية هي تحقيق عوائد سريعة. وقد تم تحديد خمسة بلدان ذات أولوية لهذا النهج هم: إثيوبيا ومالي والنيجر ونيجيريا والسنغال، سعيًّا إلى إبرام مواثيق هجرة مُصممة خصيصًا لهم. وقد فشل هذا الإطار إلى حدّ كبير حتى الآن في تحقيق تعاون أفضل في مجال الهجرة. وينطبق الشيء ذاته على الميثاق الأوروبي الجديد للهجرة واللجوء الذي تم توقيعه عام 2020م، وقانون التأشيرة المنقّح الذي يسمح بفرض قيود على التأشيرات للبلدان التي لا تتعاون بشكل كاف بشأن العودة. ولا تزال عمليات الإعادة القسرية، لا سيما إلى غرب أفريقيا، منخفضة كما ذُكر أعلاه. هناك عدد من الأسباب لذلك. أولًا، غالبًا ما تُصاحب عمليات الترحيل ممارسات عنيفة لأولئك الذين تتم إعادتهم. على سبيل المثال، وثّقت مؤخرًا مجموعة سنغالية لحقوق المُهاجرين حالة شخص تم ترحيله من مؤسسة نفسية مغلقة في ألمانيا دون أدوية أو سجلات طبية أو هاتف أو متعلقات شخصية أخرى، وترك لإعالة نفسه لدى وصوله، وغيرها من الحالات المشابهة المتكررة. ومن ثمّ فالحكومات التي ترغب في حماية مواطنيها سترغب في تجنب ذلك. ثانيًا، يُمكن أن تأتي العودة على حساب تحويلات مالية هامة مِن هؤلاء المُهاجرين (غالبًا ما تكون أعلى من المعونة الإنمائية). فعلى سبيل المثال، تعدّ نيجيريا أكبر بلد متلقي للتحويلات الصافية في أفريقيا جنوب الصحراء. في عام 2017، تلقّت البلاد نحو 22 مليار دولار أمريكي من التحويلات الرسمية لمهاجريها في الخارج، ما يمثل 5.9 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي لنيجيريا. وبالمقارنة، بلغت المساعدات الإنمائية الرسمية 3.36 مليار دولار أمريكي، أي 0.89٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي. وفي عام 2020م بلغ نصيب نيجيريا وحدها أكثر من 40% من تدفقات التحويلات إلى المنطقة (وفقًا لتقديرات البنك الدولي). وهكذا، تحسب البلدان أن العودة يمكن أن تُقلل من التحويلات. خاصة وأن إعادة إدماج المرحلين يقترن بتكاليف اجتماعية واقتصادية باهظة. ثالثًا، تشعر البلدان الإفريقيّة بأنها تُعامل معاملة سيئة من قِبَل الجهات الأوروبيّة ذات الصلة. خاصة وأن مسارات الهجرة القانونية محدودة، كما أن نهج الاتحاد الأوروبي بات عقابيًا بشكل متزايد. فضلًا عن أن وضع شروط دخول البلاد والحصول على تأشيرة أصبح أكثر صرامة للبلدان التي لا ينظر إليها على أنها تتعاون بشكل كافٍ بشأن العودة، مثل غامبيا أو السنغال.
- الاستجابة الإفريقيّة إزاء الضغوط الأوروبية:
تتراوح استجابات البلدان لطلبات العودة بدءًا من الامتثال على مضض إلى عدم الامتثال التفاعلي وعدم الامتثال الاستباقي. وقد يتم استخدام كل هذه الاستراتيجيات في أوقات مختلفة، أو في وقت واحد، وفقًا للأوضاع والترتيبات القائمة لكل دولة. وتتأثر تلك الاستجابات بالضغوط المتضاربة في كثير من الأحيان التي تواجهها الحكومات محليًا وخارجيًا. ونوضح كل منهم على النحو التالي:
- الامتثال على مضض: يحدث ذلك عندما تمتثل الدول لعمليات الترحيل، ولكن على مضض فقط. على سبيل المثال، تشير اتفاقات العودة غير الرسمية إلى امتثال الشركاء الدوليين ولكنها تجتذب تدقيقًا أقل من هيئات الرقابة البرلمانية أو عامة المواطنين. ويمكن لهذه الاستراتيجية أن تأتي بنتائج عكسية وتسبب عدم الثقة والغضب من قِبَل المواطنين.
- عدم الامتثال الاستباقي “المُباشر”: تعدّ الاستجابة الأكثر تطرفًا. وهو الوقت الذي تكون فيه الدول مباشرة للغاية في رفضها للتعاون مع عمليات العودة. ويشمل ذلك، على سبيل المثال، المُماطلة في المفاوضات من أجل التوصل إلى اتفاق عودة رسمي. وقد سلكت السنغال ونيجيريا هذا النهج. ويوفر هذا النمط من عدم الامتثال أكبر قدر من المزايا للحكومات لتحسين شرعيتها المحلية، خاصة أثناء الانتخابات. ولكن يُمكن أن يأتي على حساب الدعم الدولي. في حالة غامبيا، على سبيل المثال، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على التأشيرات.
- عدم الامتثال بتعطيل الإجراءات: يتضمن استدعاء المُشكلات الفنية والتسبب في تأخر عمليات الإرجاع. وقد لا تُحدد الدول ما إذا كان المُهاجرون من مواطنيها أم لا، وقد لا تُصدر وثائق سفر للمُهاجرين الذين ينتظرون الترحيل من الأساس. يمكن أن تكون هذه استراتيجية أقل تكلفة من الرفض الصريح لعمليات الترحيل، خاصة مع زيادة الموافقة المحلية.
أخيرًا، تقول الخبيرة في الشؤون الإفريقيّة “تيريزا نوغيرا بينتو” في مقالها حول التعامل الأوروبي مع ملف الهجرة غير النظاميّة القادمة من إفريقيا، على منصة GIS Report، إن الاتحاد الأوروبي يُركّز بشكل كبير على تهيئة الظروف للهجرة القانونية، كما يتضح من الميزانية البالغة 9.9 مليار يورو المُخصصة لصندوق اللجوء والهجرة والاندماج (2021-2027). بناءً عليه يعترف صانعو القرار السياسي بأن الهجرة لم تعد قضية هامشيّة في السياسة الأوروبية، كما انعكست معارضة الهجرة غير الشرعية على نتائج الانتخابات في جميع أنحاء أوروبا. وأثار ذلك تغييرات في العديد من البلدان. في إيطاليا والنمسا، تم انتخاب الحكومات التي وعدت باحتواء الهجرة غير الشرعيّة. وفي السويد، وصف رئيس الوزراء المُحافظ “أولف كريسترسون”، الهجرة بأنها “غير مستدامة” وأعلن عن نقلة نوعيّة في التعامل مع الأمر ولمّ شمل الأسرة وتقنين قواعد الحصول على الجنسية. كما أطلقت الحكومة حملة إعلامية تستهدف طالبي اللجوء المحتملين. وفي ألمانيا، عيّنت الحكومة مفوّضًا خاصًا للهجرة مسؤولًا عن معالجة طلبات اللجوء (التي بلغ عددها 244000 في عام 2022)، ما أدى إلى زيادة الهجرة النظاميّة والحدّ بشكل كبير من الهجرة غير النظاميّة.
المراجع والإحالات:
- تُشير منظمة الهجرة الدولية إلى الهجرة بوصفها حركة شخص أو مجموعة من الأشخاص من مكان إقامتهم المعتاد سواء داخل بلد ما أو عبر الحدود الدولية، إما بشكل مؤقت أو دائم، لأسباب مختلفة.
- “خلافاً للتوقعات، تدفقات التحويلات لا تزال قوية أثناء أزمة كورونا”، البنك الدولي، ديسمبر 2021، متاح على الرابط: https://tinyurl.com/bdd8cx4w، تم الاطلاع في 19 نوفمبر، 2023.
- Dulo Nyaoro, “Comparison of African Migration to Europe and European Migration in the Last Two Centuries”, Jan 2023, on: https://www.intechopen.com/chapters/85713 , accessed in Nov 17, 2023.
- Evelyn Groenink, “Europe will never discourage African migration while it funds the corruption that drives it”, The Guardian, Oct 20, 2023, on: https://tinyurl.com/yc5ztvru, accessed in Nov 15, 2023.
- Franzisca Zanker, “African migration to Europe: forced returns run into resistance”, The Conversation, May 29, 2023, on: https://tinyurl.com/39dnfbed, accessed in Nov 17, 2023.
- Teresa Nogueira Pinto, “The EU’s imperfect choices on migration from Africa”, GIS Reports, Feb 2023, on: https://tinyurl.com/479z3wws, accessed in Nov 18, 2023.