تقارير

ترجمات وعروض :الجابون ودور الجهود السياسيّة الاستباقيّة في تحجيم ظاهرة الانقلابات العسكريّة

اعداد :نهاد محمود أحمد- باحثة متخصصة في الشئون الأفريقية – عضو مجموعة عمل الدراسات الأفريقية بالمركز

نشر معهد الدراسات الأمنية (ISS) مقالًا لكل من ريماجي هويناثي ونيرفالي مولو، حول حالة عدم الاستقرار السياسي والتغيّرات غير الدستورية التي تُحيط بعدد ليس بالقليل من النُظم السياسيّة الحاكمة بالقارة الأفريقية، مع التركيز على الجابون كنموذج لهذه الوضعية. ويحاول المقال البحث عن كيفية تلاشي تلك الحالة من الفوضى المُحفزة لحالة عدم الاستقرار السياسي من خلال إحداث تغيّرات سياسيّة حقيقية استباقية بغيّة الحفاظ على النُظم السياسية وضمان استقرارها وديمومتها بشكل ديموقراطي يُجَنّب وقوع البلدان الأفريقية في تلك الدائرة المفرغة من حالة عدم الاستقرار والتغيرات غير الدستورية في الحُكم.

يشير المقال بدايةً إلى ما حدث في أغسطس الماضي بالجابون حينما واجهت البلاد انقلابًا عسكريًّا أطاح بالسلطة الحاكمة لديها، كان إيذانًا بنهاية حكم عائلة “بونجو” الذي دام لـ56 عامًا، حتى أصبحت العائلة رمزًا للاستمرارية السياسية والحكم المصحوب بالنتائج الكارثيّة. وعقب ما تم من نقل للسلطة التي تخضع الآن لرقابة مشددة بقيادة ضباط رفيعي المستوى من الحرس الجمهوري، سادت حقبة جديدة من عدم اليقين، وبخاصة مع تشكيل حكومة انتقالية بقيادة الجنرال “بريس أوليغي نغويما”.

اتصالًا بما تقدّم يعرض المقال عددًا من النقاط الرئيسة المتعلقة بحالة عدم الاستقرار والاضطرابات المصاحبة للنظم السياسية الأفريقية وكيفية تحجيمها عبر مجموعة من التصورات والحلول “الاستباقية”، والتي تمثل استجابة للمطالب الشعبية وفصائل المعارضة والتي ربما تُسهم بشكل أو آخر في تقليل ظاهرة الانقلابات العسكرية التي مُنيت بها القارة في الآونة الأخيرة على نحو متصاعد. وذلك على النحو التالي:

سياق داخلي مُحفز على تغيير السلطة:

على مدار سنوات أُحيط إقليم وسط أفريقيا بحالة من عدم الاستقرار السياسي والانقلابات وبخاصة في الآونة الأخيرة، ما يعكس ما تعانيه المنطقة من تحديات عدة في بنية الحكم والأسس القائم عليها. وفي سياقات كهذه يمكن أن تكون التحولات السياسية الإيجابية أدوات استباقية لتوطيد الحكم بشكل ديموقراطي وتفادي حالة السخط التي تؤدي في الأخير إلى الوقوع في فخ الانقلابات العسكرية على النُخب الحاكمة.

بالعودة للجابون، فقد اجتمعت عوامل عدة للوصول إلى هذه الحالة من الاضطرابات ومن ثمّ الوقوع في دائرة الانقلاب العسكري؛ حيث شملت عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية لخلق مناخ متقلب، ما ترك البلاد عرضة لفراغ في السلطة بعد وفاة “عمر بونجو” في يونيو 2009. عقب ذلك تولى ابنه “علي بونجو” الذي حكم البلاد عقب طرد رفاق والده السابقين، في انتخابات متنازع عليها أجريت في أغسطس 2009. وتبع ذلك تصاعد حالة الاستقطاب السياسي وغياب العدالة التي زاد من حدّتها عملية انتخابية افتقرت إلى الشفافية والنزاهة، في ظل نظام سياسي مضطرب ضاعف من عدم استقراره كافة انتصارات “علي بونجو” الثلاثة -2009، 2016، 2023- والتي كانت جميعها موضع شك ونزاع. على سبيل المثال في أعقاب إعادة انتخابه عام 2016 أضرم المتظاهرون النيران بمبنى البرلمان، ومن المفارقات أن منافسه الرئيسي كان صهره السابق “جان بينج” الذي شَغِلَّ سابقًا مناصب رفيعة المستوى في حكومة “بونجو” الأكبر، وأدت هذه التطورات إلى نزاعات انتخابية وانقسامات سياسية واسعة النطاق، شملت انشقاقات عنيفة وخطابات حادة بين الفصائل السياسية المختلفة.

كما واجهت الجابون، الدولة الغنية بالنفط، في أغسطس 2023 اتهامات فساد عدة، وعلى الرغم من أن “بونجو” حصل على أكثر من ثُلثي الأصوات، إلا أن الانتخابات افتقرت وبشدة إلى الشفافية والشرعية. فضلًا عن اتهامه خلال حُكمه بشراء المعارضين لضمهم إلى صفوفه، وتعيين أفراد أسرته في مناصب استراتيجية رفيعة المستوى. وحتى انتخابات 2023 أجريت وسط أجواء مثيرة للجدل وبخاصة مع غياب المراقبين الدوليين أو حتى الصحفيين، كما تم فرض حظر تجوال وإغلاق حدود البلاد.

نجد هنا بأن الملاحظة الأجدّر بالإشارة تمثلت في أن تجاهل “بونجو” لسيادة القانون والديموقراطية قد أدى لتأجيج حالة السخط المجتمعي لدى الأحزاب المعارضة الساعية للتغيير، والتي وفرت لاحقًا زخمًا وبيئة مُثلى للاضطرابات السياسية ومن ثم الانقلاب عليه.

أوضاع اقتصادية هشّة:

على الرغم من أن نصيب الفرد الجابوني من الناتج المحلي الإجمالي يعدّ أعلى من المتوسط والذي يبلغ 17440 دولارًا أمريكيًا، إلا أن الدولة عانت من مستويات عالية من عدم المساواة في توزيع الدخل ومن ثمّ معدلات الفقر. في عام 2019 على سبيل المثال كان قرابة 43.5٪ من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وهو رابع أعلى معدل للفقر بين الاقتصادات ذات الدخل المتوسط الأعلى في إفريقيا. من جهة أخرى واجهت البلاد مستويات مرتفعة من البطالة، وذلك وفقًا للتقديرات التي أشارت إلى أن 40٪ من الشباب كانوا عاطلين عن العمل خلال عام 2020.

وقد أدى الانكماش الاقتصادي في الجابون، المدفوع بتقلبات أسعار النفط، إلى تقوّيض قدرة الحكومة على إعالة مواطنيها. ومع ضعف الاقتصاد، كافحت الحكومة للحفاظ على الدعم الشعبي، ولكن أدت الفضائح المتلاحقة بالفساد إلى تآكل ثقة المواطنين بالسلطة الحاكمة. ومع وجود هذا النمط من الحكم الاستبدادي طيلة كل هذه السنوات لعائلة “بونجو”، كانت الظروف مهيّأة للاضطرابات الاجتماعية وتغيير النظام بشكل غير دستوري.

المُقاربة الأفريقية لتحجيم اندلاع الانقلابات العسكرية:

يتوقف منع حالات عدم الاستقرار السياسي والانقلابات في وسط أفريقيا إلى حد كبير على تحديد إشارات التحذير وكيفية الاستجابة لها في الوقت المناسب وبشكل فعّال. والواقع أن تجارب الجابون تقدم رؤى قيّمة في هذا الصدد. ويضع ميثاق الانتقال الجديد في البلاد الأساس للإصلاح الديموقراطي. ويظهر تركيزها على المُثل الديموقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد استعدادًا لمعالجة عوائق وتحديات الماضي وبناء مستقبل أكثر استقرارًا وديموقراطية. كما تشير القيم الجديدة المضافة كالوطنية والمساءلة إلى بيئة سياسية متغيرة تؤكد على الانفتاح والحوار، شريطة أن يكون تنفيذ الميثاق على النحو الملائم، فذلك أمر بالغ الأهمية وهو ما يتطلب التعاون بين جميع أصحاب المصلحة والتقيّد بمبادئ الوثيقة. ونشير هنا إلى أن البيئة السياسية في الجابون باتت آخذة في التغير بالفعل، ويُمثل الميثاق عنصرًا رئيسيًا في ذلك التطور. ومع ذلك، فإنه يغضّ الطرف بشأن مسألتين حاسمتين، أولهما: أهلية الرئيس للانتخابات المقبلة، وثانيهما: مدة الفترة الانتقالية. وهذا قد يخلق توترات يمكن أن تتفاقم إذا لم يُحسم الحوار الوطني المقرر عقده في أبريل المقبل هذه القضايا.

من جهة أخرى يمكن الفهم أن الوضع السياسي في جابون ما قبل الانقلاب مشابه لحالات عدّة في بلدان وسط أفريقيا. فالأنظمة قائمة منذ عقود من الزمن دون تناوب وتداول سلمي للسلطة، والحوكمة الاقتصادية لا تلبي دائمًا تطلعات الشعب. وفي هذه السياقات، يمكن استخدام الأجندات الانتقالية لإعادة ضبط الأنظمة السياسية وتجنب عدم الاستقرار. على بلدان مثل الجابون وتشاد استخدام تحولاتها بشكل استباقي لتحسين الحريات السياسية والاقتصادية، ومعالجة المظالم الشعبية الكامنة لديها. وبالرغم من مرور أكثر من عامين على انتقال السلطة بتشاد إلى محمد إدريس ديبي (عقب مقتل والده الرئيس التشادي إدريس ديبي)، إلا أنها لم تحرز تقدمًا يُذكر حتى الآن، ولكن الجابون يُمكن أن تفعل ما هو أفضل.

الاستجابة السياسية ودور المنظمات القارية والإقليمية في تجنُّب نشوب الانقلابات العسكرية:

إن استخدام التحولات السياسية كأداة لمنع الانقلابات من شأنه توفير إمكانية الاستقرار والمصالحة والتعاون الإقليمي على المدى الطويل. ولكي تؤتي ثمارها، يجب إعادة توجيه الجهود السياسية نحو منع التغيّرات غير الدستورية بالسلطة. ومثل هذا النهج- الذي ينطوي على تدابير دبلوماسية وسياسية وأمنية -أمر حتمي لإقليم وسط أفريقيا ويحتاج إلى دعم الجماعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا (ECCAS).

كما يمكن للاتحاد الأفريقي أن يساعد من خلال ضمان أن يؤدي الانتقال السياسي في الجابون بل وفي جميع أنحاء وسط أفريقيا إلى الاستقرار والقدرة على الصمود على المدى الطويل ضد الانقلابات. وفي حالة الجابون، يمكن للاتحاد الأفريقي والجماعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا التوسط في النزاعات وتعزيز الحوار لمعالجة المظالم وتعزيز المصالحة. كما يجب على المنظمتين نشر بعثات لمراقبة الانتخابات من أجل ترسيخ شرعية الحكومات الجديدة ومنع المزيد من الأزمات السياسية.

وأخيرًا؛ فإن حالة الجابون من الممكن أن توجّه الجماعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا “إيكاس” في تعزيز التحولات الديموقراطية التي تُمَكِّن وسط أفريقيا من إيجاد طريقها إلى السلام والاستقرار.

الرابط الأصلي للمقال:

https://issafrica.org/iss-today/gabon-and-the-role-of-political-transitions-in-preventing-coups

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى